بين الأمل والألم، امتنعت كغيري كثيرين، من الخوض في الخلاف الخليجي بين قطر وكل من المملكة العربية السعودية والإمارات والبحرين، ليس لأي سبب، أكثر من الرجاء مع النفس، أن يكون هذا الخلاف مؤقتا وعابرا وسريع الحل، وبين كل خبر وخبر، يأتي من اجتماعات وزراء الخارجية للدول، مجتمعين كمجلس تعاون، أو بين بعض أعضاء المجلس، يتوقع كثيرون أن يسمعوا أخبارا سارة، برأب الصدع، وعودة الأمور إلى مجاريها، ولكن الأخبار تأتي مرة ساخنة تبشر بانفراج، ومرة باردة تشير إلى استمرار الخلاف. لا يخفى على من يعيش في الخليج من المهتمين الأسباب الكامنة وراء ذلك الخلاف، وبعضها قديم تحت السطح، تفوق الآباء على سلبياته بالكثير من سعة الصدر ومن إيجابيات التعاون والمسيرة الواحدة، بل والمصير المشترك، إلا أن ظهور الخلاف على السطح قبل أشهر، جلب مواجع كثيرة. أول تلك المواجع أصبح من يعرف، ومن لا يعرف، يقوم بالتنظير في أسباب الخلاف، كما تعدى الخلاف، عندما طال، المواقع الرسمية إلى القطاع الشعبي، وكان هذا الضرر الأكبر في الموضوع، الذي قد يؤثر في النسيج الاجتماعي المتشابه والمتداخل، وتبرع كثيرون لأخذ موقف مع هذا الجانب أو ذاك، تزلفا أو جهلا. كثير من العقلاء تمنوا على الجميع عدم الخوض في الموضوع، وترك الأمور حتى تهدأ النفوس، وتتبين المصالح المشتركة الكبرى بين الأشقاء، إلا أن دخول ذلك النفر من المحليين، ومن غير المحليين، وقد وجدوا فرصة لتنفيس مكنون أنفسهم، تصيدا وتصعيدا، بدا اللغط والتضخيم، غير المرغوب من الحريصين على وحدة الصف الخليجي في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ المنطقة، التي تشتعل فيها النيران أين ما وجهت نظرك، بعضهم أراد أن يصطاد في الماء العكر، فأضر قبل أن ينفع، وبعضهم افتقد الحكمة وبعد النظر، فخلط الحابل بالنابل! مما قد يخلف ديناميكية تؤدي إلى نتائج غير محسوبة أو مرغوبة. إن استمر الخلاف، لسبب أو لآخر، فسيكون الخاسر الحقيقي هو الشعب الخليجي، وكذلك الأطراف جميعا، هي معادلة لا يوجد فيها رابح، وحتى الرابح إن وجد، هو خسران في النهاية. الأسباب التي أبني عليها ما تقدم كثيرة، وهي تبدأ أولا بأن التسونامي القادم إلى الخليج من الشمال ومن الجنوب ليس هينا ولا بسيطا، فهناك تحولات جذرية كبرى تجري في الجوار، وحروب بالوكالة تخوضها قوى طائفية وميليشيات مسلحة، وعواصف سياسية تهب مزمجرة، لا بد أن يصل لفحها، قليلا أو كثيرا، منطقة الخليج، وسيكون تأثيرها أعمق، في حال التفكك والفرقة، لأن الفرقة تعظم فرص التدخل وتقلل من فرص المقاومة. اتقاء سلبيات ذلك التسونامي، لا يستقيم إلا بمواجهة موحدة وصلبة ومتعاونة إلى حد كبير بين الأشقاء. التحدي الثاني أن هناك قوى في الإقليم تتمنى أن يكون هذا الشقاق قائما ومستمرا ومتسعا، لأنه النافذة التي تمكن هذه القوى من النفاذ لتحقيق مصالحها، ويمكن أيضا أن تلعب لعبة التأييد لهذا الطرف أو ذلك، حتى تتمكن من النفوذ إلى الساحة الداخلية الخليجية. وثالثا، القوى الكبرى ذات المصالح والأطماع أيضا تستفيد من هذا الاختلاف لأنه يحقق لها الفرصة الأوفر لتحقيق مصالحها، دون النظر، كما فعلت تاريخيا في السابق، بمصالح أهل المنطقة، والمتضررين حقا من هذا الخلاف. ولعل من النتائج السلبية لهذا الخلاف ما يغرسه لدى الجمهور العام من استنفار سلبي في غير مكانه، ولغو في غير زمانه. وعلى المستوى الاستراتيجي يضعف هذا الخلاف القوة التفاوضية الجمعية لدول الخليج، ويستنزف طاقة خليجية أولى بها أن توجه إلى مكان آخر أكثر أهمية وأولوية. ليس خافيا أن المنطقة كلها تمر اليوم وفي غضون السنوات القليلة الماضية، بتغيرات كبرى، كما أن تلك التغيرات ما زالت نتائجها في صيرورة مستمرة، أي أنها لم تصل بعد إلى خواتيمها، تخبئ من المفاجآت أكثر مما تظهر، والنظر إلى الآني في السياسات، يعطل النظر إلى الآتي منها، والآتي هو بالتأكيد ضخم وكبير وربما مدمر، فمنطقة الخليج، حتى الآن لم تصب بآثار التسونامي المزمجر في المنطقة بشكل مباشر، ولو أن البعض يرى أن الخلاف بحد ذاته، هو عرض من أعراض تلك الإصابة، ولكنه حتى الآن قد يكون عارضا سطحيا، يمكن علاجه بالحكمة، إن فهم سياق التغيير في منطقة الشرق الأوسط، وسياق لعبة الأمم، التي تلعب حوله وبه. في العمق لا يجد الباحث المدقق أسبابا مقنعة لاستمرار هذا الخلاف، أو أسبابا مقنعة لعدم حله، إلا أن قراءة التاريخ تعلمنا بعض الدروس، بأن الدول والشعوب والقيادات أيضا، قد تذهب إلى مصير سيئ وهي نائمة. والمثال يؤخذ من الحرب العالمية الأولى، التي يكتب فيها هذا الزمان، بمناسبة مرور مائة عام على اندلاعها، الكثير من الكتب، وهي التي يراها كثيرون سببا للحروب اللاحقة، فقد سارت القيادات وقتها، كما وصفها كتاب معمق صدر أخيرا بعنوان (the sleepwalkers) وعنوانه الفرعي: كيف ذهب قادة العالم إلى الحرب العالمية الأولى نياما، أي أن القيادات وقت ذاك، قد كانت تمشي إلى الحرب وهي نائمة، بمعنى أن كثيرين في أوروبا، قللوا من نتائج الخلافات المتصاعد في القارة، على أنه ممكن الحل، حتى بلغ الأمر نقطة اللاعودة، وخلافات ذلك الزمان قادت العالم إلى حرب مدمرة، لم يكن حتى أكثر المتشائمين، يعتقد أنها سوف تفعل ذلك، عدا أن نتائجها قادت من جديد إلى حرب عالمية ثانية، وكما قال مؤرخ فطن، لولا دمار الحرب العالمية الأولى، لعاش أدولف هتلر ومات نقاش منازل، لم يعرف به أحد! زبدة الكلام أن ما يحدث بين دول الخليج خسارة كبرى للجميع، واستنزاف للطاقات، وباب شرور قد يفتح دون أن يستطيع أحد إغلاقه، ودعوة للآخرين إلى التدخل السافر أو الخفي في شؤون منطقة تحتاج كل جهد المخلصين لتعويمها وتجنيبها شرور التسونامي الشرق أوسطي، الذي ينتج تقريبا يوميا عددا من المفاجآت غير المنتظرة. آخر الكلام: ما يواجه الخليج اليوم أكثر خطرا وتأثيرا مما واجهه في الخمسين سنة الماضية، يحتاج إلى بعد نظر لتجنب شروره.