حروب الهوية الدائرة في المنطقة في صراع غير مسبوق تضرب بعواصفها أركان العالم العربي من شمال أفريقيا حتى اليمن مرورا بالعراقوسوريا وحتى لبنان. بعض هذه الحروب نشطة وبعضها كامن أو متقطع وقد ينتعش في أي وقت، وتجد دول الخليج نفسها أمام هذا الاضطراب مهددة بالعدوى، أو في بعضها تكمن بذرة نفور بين مكوناتها ناتجة أساسا من تأثير تلك الحروب المحيطة، وتغذيها طموحات إقليمية لم تعد تداري رغبتها في الهيمنة. أمام كل هذا المشهد المضطرب عقد في البحرين الأسبوع الماضي ندوة نظمها مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية تحت عنوان ”المؤتمر الاستراتيجي الخليجي” ودارت في جلسات المؤتمر حوارات جادة مركزها تساؤل: أين الخليج من كل هذا الاضطراب الكبير المحيط به؟ وكيف يمكن تقليل النتائج السلبية لتأثير تلك الاضطرابات؟ وتعظيم فرص الوقاية منها إن أمكن؟ بعض وجهات النظر، وقد جاءت من رجال لهم خبرة واطلاع على المستوى الدولي، لم يترددوا في توصيف ما تمر به منطقة الشرق الأوسط من أنها مرحلة تاريخية مفصلية، لم تشهد ما يشابهها إلا بعد الحرب العالمية الأولى، حيث قسمت المنطقة، وقد يقود الاضطراب اليوم إلى تقسيمات جديدة، من ليبيا إلى اليمن مرورا بالعراقوسوريا، وليس بعيدا أن تطول حروب الهوية الدائرة اليوم أو تتجدد أو حتى تنشأ حروب هوية جديدة. على مقلب آخر عند الحديث عن دور القوى الكبرى الغربية وتوجهاتها تجاه المنطقة ظهر من مداخلات لآخرين لا تنقصهم الخبرة، أن الولاياتالمتحدة تخير دول الخليج في الموضوع الإيراني الشائك، بين ثلاث، الأولى، إما التفاوض، أي تفاوضها مع إيران، بهدف نزع سلاح إيران النووي، قد تصل إلى إنتاجه تلك الدولة بين ثلاثة أو أربعة أعوام من الآن كما يقول الخبير، أو ثانيا، تقوم الولاياتالمتحدة بضرب المنشآت الإيرانية، وهي تحتاج في هذه الحالة إلى أن تصل إلى نحو 40 موقعا على امتداد خريطة إيران، مما يعني فتح باب الحرب التي قد تطول، ولا أحد يستطيع توقع نتائجها، أما الخيار الثالث فهو، مشاركة الولاياتالمتحدة مع دول الخليج في إقامة منظومة ردع، هكذا قال الخبير الأميركي المتمرس. طبعا تميل وجهة نظره إلى أن التفاوض هو أقصر الطرق وأسلمها، وهي ما تقوم به الآن. إلا أن المهتمين في الخليج يثور عندهم تساؤل، هذا التفاوض الذي قد تقدم فيه إيران تنازلات لم تكن تقبل بها منذ أشهر، ويظهر الدخان الأبيض بالقول، إن المفاوضات (ناجحة ومثمرة) ترى ما هي المكافأة التي يمكن للغرب أن يقدمها لإيران؟ وهل من ضمن تلك المكافأة إطلاق يدها في الجوار الخليجي، وتأمين تلك اليد الإيرانية في كل من العراقوسوريا وما بعدهما؟ على الرغم من أن ذلك التساؤل يبدو منطقيا ومشروعا من الجانب الخليجي، فإنه ظهر استفزازيا للباحث الأميركي الذي قدم تلك الأطروحة في المؤتمر، وبدا له التساؤل تكريس الإيمان بنظرية المؤامرة! وطلب من الجميع أن يتخلص من التفكير فيها! قد تبدو الشكوك الخليجية في الموقفين الأميركي والإيراني للبعض أنها نظرية مؤامرة، إلا أنها إن ضمت مع ما تم في الملف السوري، تتحول من مؤامرة إلى مخاوف حقيقية، فهناك في سوريا توجهت القوى الكبرى إلى ملف واحد هو نزع ترسانة الأسلحة الكيماوية، أما القتل والتضحيات وضرب الآمنين بالقنابل من الطائرات والتجويع وحصار مدن بأكملها فهو ثانوي بالنسبة للغرب، ما دام قد حصل على تخفيف التهديد تجاه إسرائيل بنزع السلاح الكيماوي السوري. مثل هذا السيناريو قد يتم في الخليج تجاه إيران، ويبدو أنه يهيأ له، فإيران إن قيدت قدرتها على إنتاج سلاح نووي، وهو ما يقلق إسرائيل والغرب، فإن أي صفقة بعد ذلك تكون ممكنة. ولم يكن الباحث الأميركي المطلع متحفظا أو مترددا عند قوله بالنسبة للبحرين مثلا، إننا (الأميركيين) لا نشارك البحرين في فكرة أن ما يحصل لديهم من شغب، هو من نتاج الدعم الإيراني، أن يختار هذا القول في محفل من هذا النوع، لا بد أن يثير التساؤلات، في الوقت الذي يرى كثيرون على الأرض إثباتات مادية بتدخل إيراني مباشر أو من خلال وكلاء لإيران، بل إن تدخلهم في العراقوسوريا بين لا يحتاج إلى إثبات. ما أقلقني في موقف الباحث القريب من دوائر القرار أنه لم يشر إلى احتمال - ولو ضئيل - فشل المحادثات مع إيران، وكأن تسليم إيران لمتطلبات الغرب أصبح واقعا! واضح من تواجهات السياسة الأميركية تجاه الخليج والمنطقة أنها أولا، تتجاهل الشعور العميق بالخطر الذي يسري بين المواطنين ليس فقط من جراء السلاح النووي وهو خطير للغاية، ولكن من جراء التهديد والهيمنة، ومن جهة أخرى الأضرار البيئية التي قد تحدثها صدفة الطبيعة. ومن جانب آخر إن بعضنا يرغب في تسهيل الأمر عليه، فيفسر الموقف الانسحابي الأميركي على أنه نتيجة سياسة السيد باراك أوباما، ولكن الحصيف عليه أن يضع بالحساب أنها سياسة الولاياتالمتحدة التي مع مرور الأيام سوف تتجذر، بصرف النظر عن ساكن البيت الأبيض. لم تكن كل الأفكار بهذه السلبية من وجهة نظر الخليجيين الحاضرين على الأقل، بل قدمت أفكار حتى من الغربيين المشاركين، تقول إن ترياق هذا التراجع الدولي الذي يكبر هو أخذه بجدية من دول الخليج باستجابة عقلانية يكون أساسها إقامة كيان موحد يأخذ مسارين؛ الأول، وحدة خليجية مؤسسية، وثانيا، إصلاحات مستحقة داخلية، ذلك هو المرفأ التي يمكن اللجوء إليه من أجل تحقيق الهبوط الآمن للخليج في أجواء العواصف السياسية التي تضرب المنطقة بلا هوادة، متلاحقة ومزمجرة لا تكاد دولة تكون بمنجاة من آثارها. بسبب تلك التغيرات لم يعد الأمن المحلي منفصلا عن الإقليمي والعالمي، كما لم يعد الأمن الخارجي منفصلا عن الأمن الداخلي، ودول الخليج تواجه عقبات هيكلية وجب النظر إليها بجدية، منها على سبيل المثال الوضع الديموغرافي الذي تتضافر فيه ظاهرتان متناقضتان، وهما زيادة مطلقة في عدد السكان، وتناقص ملحوظ في الزيادة الطبيعية للسكان المحليين، أي إن تركت الأمور كما هي، ففي وقت ليس ببعيد، سيكون هناك أغلبية مهاجرة، وهي متعددة الثقافات ومختلفة الأمزجة وتنمو لديها طموحات سياسية متوقعة، كما أن قلة السكان في بعض وحدات الخليج السياسية، تقلل من قدرتها على الوفاء بمتطلبات التنمية ومنها المتطلبات الأمنية. المخرج هو التحول من تعاون إلى مصير مشترك، لا تستطيع لأسباب اقتصادية وديموغرافية وجيوسياسية الوحدة الخليجية السياسية القائمة اليوم من الاستمرار والعوم في هذا الفضاء المضطرب إلا بوجود وحدة خليجية أكبر فاعلية تتعدى الشعارات وتتجاوز الأماني وتتعالى على المصالح الضيقة، فالمخاطر المحيطة تقود إلى التفكير في الحكمة القائلة، إن بمجموعنا نستطيع أن نقاوم، وبمفردنا يمكن أن نغرق! آخر الكلام: أكل لحوم القطط والكلاب في مدن سوريا المحاصرة أصبح حقيقة، كما أصبح انتشار شلل الأطفال حقيقة، والسيد الأخضر الإبراهيمي ما زال يأمل في الارتواء من نهر السراب!