جرى الأسبوع الماضي تلقيننا درسا ”بليغا” مباشرة على الهواء التلفزيوني وعبر الهواء الفيسبوكي أيضا في ماهية الصحافة الاستقصائية. فمن كان يتوهم أن الصحافة الاستقصائية العريقة التي بدأت منذ أكثر من قرن هي سلوك منهجي رصين يعتمد على البحث والتدقيق ويحرص على الموضوعية لمحاربة فساد المسؤولين ومحاسبتهم عليه أن يعيد النظر فيما اعتقده.. ومن وقع في فخ الظن بأن الصحافة الاستقصائية هي أعلى مراتب المهنية الإعلامية وأصعبها عليه أيضا أن ينقلب على ما كان يظنه وينظر للأمر من زاوية جديدة. أما الدرس ”البليغ” الذي صفعنا جميعا فقد جرى في مصر. فقد علمنا ”إبداع” زميلة في المهنة أن الاستقصاء وكشف الفساد يتجسد بإبلاغ الأجهزة الأمنية عن حمام شعبي واتهام عشرات من رواده بممارسات فاضحة بل والمشاركة في تصويرهم خلال القبض عليهم والتشهير بهم يمنة ويسرة على الشاشات وعبر صفحات ”فيسبوك” تحت مسمى أن ذلك كشف للرذيلة وبأن ما تم هو عمل صحافي استقصائي على ما بررت الصحافية وبقيت تدافع ضد كل من انتقدها وهاجم ما فعلته. قيل يوما إن الصحافة الاستقصائية هي التي تحدد قوة ومكانة الإعلام في أي مجتمع.. في الحقيقة الحادثة الأخيرة التي شكلت صدمة فعلية وصلت ارتداداتها إلى الصحافة العالمية تشرح لنا بوضوح موقع الإعلام ودوره في الوضع الراهن في مصر. فألا يشعر من اقترف فضيحة تصوير وانتهاك خصوصيات مرتادي هذا الحمام الشعبي، التي جرت بأسلوب إثارة رخيص، حجم الأذى الجماعي الذي أصاب عائلات بأكملها فذاك انهيار ليس للبعد الصحافي المهني، وإنما لأبسط المبادئ الإنسانية. أن يجري اتهام أشخاص وانتهاك خصوصياتهم وتصويرهم والتشهير بهم وإدانتهم دون تهمة ودون محاكمة بل واعتبار ذلك إنجازا واستقصاء فذاك درك جديد ننحدر نحوه. وبالحقيقة، يعجز من يشعر أنه معني بالمشهد الإعلامي المحيط بنا أن يشيح ببصره عن التخبطات الكثيرة والسريعة الحاصلة على هذه الساحة في مصر. إذ لا يكاد يمضي يوم دون تسجيل واقعة تضاف إلى حلقة تتسع من الإسفاف الإعلامي الذي بات علامة المرحلة. فإلى جانب التدهور الكبير في الحريات والذي باتت مؤشراته كثيرة لا تخطئها عين ولا تمل تقارير الهيئات الحقوقية عن تكرارها، يبقى أن هناك خللا أكبر يتركز في ذلك الابتذال غير المسبوق في مستوى الخطاب الإعلامي، والمعني هنا الخطاب الذي يقدمه إعلاميون وإعلاميات. نعم، ليس الإسفاف المقترن بما يقدمه البعض تحت مسمى إعلام حالة فريدة في مصر بل هو داء جماعي أصابنا منذ أمد وهو في تفاقم، لكنه في مصر حالة متضخمة لا تنفك أن تتضاعف وتتذرر فتصيب في شظاياها محيطا واسعا لا ينحصر بالرأي العام المصري وحده. ما بدأ كحالات نافرة من الصراخ والشتائم والتعابير المبتذلة من قبل إعلاميين وإعلاميات بات اليوم حالة مرضية تتفشى كداء معد يكاد لا ينجو من براثن جراثيمه أحد. أن تنشغل الصحافة برواد حمام شعبي وتهمل حقيقة أن القضاء المصري يحاكم طفلا سرق أرغفة خبز فذاك ليس باستقصاء بل انتهاك.