في مثل هذا الوقت، قبل 10 سنوات، تعثرت فرنسواز جيرو على درج الأوبرا في باريس وسقطت على رأسها. ثم نهضت الوزيرة السابقة والصحافية العجوز من كبوتها وسارت نحو السيارة بقامة معتدلة وعادت إلى بيتها. وفي اليوم التالي نهضت وجلست لتكتب كعادتها، لكنها ماتت بعد 3 أيام عن 86 عاما. إنها من أبرع الصحافيين في فرنسا. ولا أقول ”كانت..”. لأن من الإجحاف أن نتحدث عن فرنسواز جيرو وأمثالها بصيغة الفعل الماضي. وقد مررت، أمس، ببائع للكتب المستعملة ورأيت ثلاثة من كتبها معروضة على الرصيف. الكتاب بنصف يورو. ثمن بخس لروح تتألق بين السطور. واقتنيت الكتب الثلاثة رغم أنها موجودة في مكتبتي. هل أترك ملهمتي في العراء وتحت المطر؟ وشعرت بأنني أشتاق لمقالاتها ولنظراتها الذكية والماكرة التي كانت تلقيها على الأحداث. إن شيئا من المكر يصلح لمجابهة البلادة والخواء. نزلت فرنسواز كورجي، وهذا اسمها الأصلي، لتعمل بائعة في مكتبة وهي في سن 14 عاما. وكنا في عشرينات القرن الماضي، يوم كانت الفرنسيات محرومات من حق الترشيح والانتخاب. ثم ناقرة على الآلة الطابعة، العمل الذي عقد أُلفة بين أناملها والحروف فصارت تنشر مقالات توقعها باسم فرنسواز جيرو، مبعثرة حروف لقبها. ولما ظهرت مجلة ”إيل” النسائية الرائدة، وقع عليها الاختيار لتكون مديرة للتحرير. لكن النقلة الحقيقية في مسيرتها كانت يوم تشاركت مع جان جاك سيرفان شرايبر، أوائل الخمسينات، في تأسيس ”الإكسبرس”. مجلة أسبوعية قوية تتخذ موقفا مؤيدا لثوار الجزائر. وكان جزاء جيرو إلقاء متفجرات على شقتها في باريس. لم يكن شيء ليوقف انطلاقتها. إنها تحب الصحافة وقد أصبحت أول رئيسة لتحرير مجلة سياسية. وهي تعشق زميلها سيرفان شرايبر عشقا سمح لها بأن تتفتح مثل وردة ثم انقلب عليها وأوشك أن يدمرها. لقد تزوج غيرها فتركت ”الإكسبرس” بعد 13 عاما من السهر اليومي وبعد أن خرجت من معطفها أشهر الصحافيات العاملات حاليا. إن تشجيع المرأة رسالة آمنت بها مع رفاقها، ومنهم المرشح الاشتراكي فرنسوا ميتران. لكنها وافقت على دخول الحكومة يوم دعاها خصمه الفائز بالرئاسة، جيسكار ديستان، لتتولى حقيبة شؤون المرأة ثم وزارة الثقافة. هل خانت معسكرها؟ كان شاقا على الفتاة التي كدحت منذ الطفولة لتعيل والدتها وشقيقتها أن ترفض المجد الجمهوري. وفيما بعد، كتبت في مذكراتها أن والدتها كانت ستتبرأ منها لو عاشت ورأتها وزيرة في حكومة لليمين. حين تركت الوزارة، أصدرت كتابا مثيرا من وحي تجربتها في دهاليز الحكم بعنوان ”كوميديا السلطة”. وعادت وتفرغت للصحافة وكان لها مقالها الأسبوعي في ”الجورنال دو ديمانش”. لكن الجريدة فصلتها من العمل بعد أن كتبت تنتقد مجلة ”باري ماتش”، التي تصدر عن المجموعة الإعلامية ذاتها، لأنها خرقت مبدأ احترام الحياة الخاصة لرئيس الجمهورية ونشرت صورة لميتران مع ابنته مازارين. والطريف أن بطل إحدى الروايات ”الخيالية” التي كانت قد صدرت لفرنسواز جيرو، هو رئيس للجمهورية ينجب ابنة من عشيقته. انتقلت بقلمها اللماح إلى صفحات ”النوفيل أوبزرفاتور” وداومت على الكتابة فيها طوال 20 عاما وكانت تطبع مقالها بنفسها وترسله كل أسبوع. وقد وصفت بأنها سيدة العبارة الموجزة والبليغة، والعناوين التي تصيب الهدف بأقل الكلمات، أو الطعنات. وكان رئيس الوزراء الأسبق شابان دلماس أحد الذين تلقوا سهما منها وهو يخوض معركة الرئاسة، عام 1974. ففي حمى الهجوم عليه كتبت فرنسواز جيرو مقالا بعنوان ”لا يجوز إطلاق النار على سيارة إسعاف”. عبارة أشد مضاضة من سهام الأعداء. يوم مات ابنها الشاب في حادث انكسر قلبها ثانية. وهي قد عاشت حياتها تنكر أنها يهودية الأصل. وهو عهد كانت قد قطعته لوالدتها التي كانت على فراش الموت. لقد آمنت بالحرية عقيدة لها. لكنها اعترفت لحفيدها، في أخريات أيامها، بالحقيقة وكشفت أن الأسرة تحولت إلى الكاثوليكية بعد وفاة الأب. من كان أبوها؟ إنه صالح كورجي بك البغدادي، مدير وكالة الأنباء العثمانية ”الأجانس” الذي رشح نفسه، عام 1912، للنيابة عن بغداد في ”مجلس المبعوثان”.