حرب ”داعش” مزقت كل شيء أو فرقته، فالعرب السنة الذين ظن بعضهم أن ”الدواعش” ثوار وفاتحو حصون وجدوا أنفسهم في أسوأ حال طوال تاريخ العراق، فأصبحوا بين مرتبكين أو نازحين مهضومين في جزء من بلدهم، يمثلهم سياسيون غالبيتهم العظمى نفعيون وكثير منهم ”حرامية” لم تستثن سرقاتهم حتى دفعات المساعدة للنازحين على قلتها، ويتصارع ممثلوهم على المناصب والوزارات ليضيفوا مالاً حرامًا، مع سكوت مطبق عن كل شيء عدا النبرات الطائفية. قدر علينا أن نخوض حروبًا وأن نتابع أخرى، ولم أجد أسوأ تمثيلاً ووصفًا من حال سياسيي سنة عرب العراق، الذين لم يفكر بعضهم حتى في زيارة منطقة قريبة من قواطع عمليات الحرب، كأنها في غياهب غابات أميركا الجنوبية وليست على مدى مشوار ساعة، تخاذلاً وجبنًا لا مثيل لهما، وحتى من يتحدثون منهم على شاشات التلفزيون دأبوا على ربط حضورهم بما يمنع الحرج في المواقف الصعبة، فيظهرون بقدر ما يخدم مصالحهم. الكتل الكردية مختلفة ومتصارعة وتعيش أسابيع بالغة القسوة بسبب النقاش الممل بحكم الطرق المسدودة إلى مسألة تجديد ولاية رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني، التي لم يعد لها باب دستوري، غير أن قصة ”القائد الضرورة” لم تعد مرتبطة بحقبة صدام، وما مقولة عدم وجود بديل إلا انتقاص من قيمة شعب قدم تضحيات كبيرة. والكتل الشيعية مختلفة وتشهد حراكًا، غير أنها محكومة بسياقات وسيطرة تضع إطارًا للحدود المسموح الاختلاف فيها وعليها، وإذا ما جرى تجاوز الحدود فسرعان ما تعاد الأمور إلى نصابها، وحالات الصراع والاقتتال لم تعد واردة إطلاقًا. الشيء الحاسم هو ظهور قوات الحشد الشعبي كعامل معادلة يزداد تأثيره مع كل ساعة تمر، وكل كلام آخر لا قيمة له على الأرض، لا سيما أن قادة الحشد الميدانيين ينتمون إلى حركات سياسية منظمة، ويستندون إلى تشكيلات مدربة ومشحونة معنويًا. وسيكون لقوات الحشد تأثير كبير ”جدًا” على الحياة السياسية وفي مجال مكافحة الفساد الذي يمارسه سياسيون ومسؤولون كبار. ولم تعد المكتسبات الميدانية تترك مجالاً لمجرد التفكير في إعادة صياغة فلسفة الحشد ضمن فلسفة نظريات غير قابلة للتطبيق. لكن هذا لا يعني التقاطع السلبي الحاد مع الحكومة. يصعب استثناء كتل من قصص ”الفساد العظيم”، إلا أن دعاة المناطقية واللامركزية شمال بغداد وغربها كانوا الأكثر تورطًا في ذلك، فقبل أيام فقط نسمع أن مسؤولاً إداريًا كبيرًا اختلس نحو نصف مخصصات النازحين، والغريب أن كثيرًا من الذين أُثروا - وكانوا حفاة - هم من ”ذيول الإخوان” ومن تحالفوا معهم أو توافقوا على السرقات، بأرقام لن تعيدها الإجراءات البيروقراطية، بل بقرارات أخرى ربما ستحكم المرحلة المقبلة بلورتها وفق نظرية ”وداوها بالتي كانت هي الداء”. المحاصصة السياسية وقصص التوافق لم تكن مكبلة لمشاريع تطور العراق، بل كانت مدمرة لمشاريع التطور، وهي حصرًا التي تسببت في إشاعة الفساد الذي لم يبق إلا قليل جدًا من المسؤولين يستحون منه. وإلا هل سمعتم أن عاملاً بسيطًا في علوة مخضرات يصبح مليونيرًا ثقيلاً ويمتلك فضائية ومشاريع استثمار لمجرد توليه مسؤولية محلية لفترة واحدة مستندًا إلى ذيول طائفية؟ فأي فوضى ورعاعية أكثر من هذه التي فرضتها المحاصصة وتزوير الانتخابات وركوب موجات خزعبلات الشد الطائفي؟ ولكي ينهض العراق من ”المحنة” فلا بد من التخلي التام عن فلسفة التمثيل الطائفي والمناطقي، ولا بد من العمل على منع التكتلات المناطقية من خلال التثقيف العميق، وعلى المناطق التي وقعت تحت سيطرة أو تأثير ”داعش” التخلي التام عن فكرة التكتل بين المحافظات التي أثبتت فشلها، والعمل وفق ضوابط وطنية على مستوى العراق، وبلورة شخصية إدارية وسياسية ضمن حدود المحافظة، والانصهار في الوعاء الوطني العام للعراق. وكل تهويل للخوف على الدين والمذاهب كلام هراء لا أساس له من الصحة، والأمثلة كثيرة ودامغة في كل أنحاء العراق، فمساجد السنة منتشرة في معظم محافظات الجنوب رغم قلة نسبتهم هناك. الوعاء الوطني هو الضمانة الوحيدة لمجابهة الطائفية السياسية، ودحر مشاريع محاصصة الفاسدين، والوقوف أمام مشاريع التآمر لتفكيك التكوين الأساسي للعراق خارج ”المعقول” من المطالب الكردية، ولا بد من بلورة قيادات جديدة بعيدا عن المفسدين الذين يفترض محاسبتهم بلا هوادة.