سيكون تمرينًا رتيبًا إن قرر أحدنا تعداد المرات التي استعملت فيها كلمة ”تضليل إعلامي” في التصريحات التي أعقبت سيطرة تنظيم داعش على منطقة الرمادي العراقية. فقد حاولت معظم التصريحات الرسمية بل وحتى تصريحات بعض المراجع الدينية أن تخفف من دوي فضيحة سقوط الرمادي بيد مسلحي ”داعش” والحديث عن ”تضليل إعلامي” يمارسه التنظيم, بل وطلب مطلقو هذه التصريحات من الرأي العام عدم الانجرار وراء ما يبث تنظيم داعش من صور تظهر فيها جليا أرتال الجيش العراقي تغادر مسرعة إلى خارج الرمادي مكررة المشهد المخزي للهروب من الموصل العام الماضي.. للحقيقة فإن كان هناك ما يحسب ل”داعش” فهو أنه تنظيم لا يعتمد التضليل الإعلامي. إنه تماما كما يقدم نفسه لنا, آلة قتل عمياء لا حدود لعنفها ولجموح السيطرة لدى قادتها. نعم ”داعش” يشن حربا نفسية ودعائية وينجح في ذلك. لكن هذا التنظيم, الذي يفترض أن العالم كله يحاربه, لا يزال قادرا على التوسع وتحقيق مكاسب ميدانية على الأرض. والاعتراف بسطوة التنظيم وقوته لا يعني تجميل عنفه وجنوحه المجنون أو الوقوع في فخ دعايته. لكن هناك صدمة جراء هذا التوسع وهذه الصدمة ما كانت لتحصل لولا أن خصوم ”داعش” كاذبون وهم على الأرجح السبب الأول في قوة هذا التنظيم؛ فالحكومة العراقية التي تضع نفسها في مصاف أول المحاربين ل”داعش” لا تزال تكمل مسارا تاريخيا من الحكم الفاشل عبر سياسات طائفية فاسدة. ”داعش” ينتصر لأنه يقدم عنفه بلا رتوش, إنه يقتل ويذبح ويسبي ويرجم ويدمر آثارا ويعلي من شأن لغة مذهبية ودينية موغلة في التطرف. هذه أفعال يعتبرها مآثر له. والانتصار على ”داعش” لن يبدأ قبل أن ننتصر على الكذب الذي نمارسه حياله, فقد سقطت الأقنعة تماما في هذه الحرب الكونية المفترضة ضده. ما رأيناه في الرمادي ليس نجاحا ل”داعش” بل فشل ذريع لحكوماتنا وأنظمتنا وفشل أميركي أيضا. وجرائم ”داعش” يمكننا أن نشاهد صورها بوضوح فالجماعة تصور ما ترتكب وتبثه لنا عبر الإنترنت. لكن كيف لنا أن نصور الفشل المقابل لهذا القتل. فصور هروب وحدات الجيش العراقي من الرمادي هي انعكاس صورة انتصار ”داعش” وهي الرد على ما يقوله الرئيس الأميركي عن ثقته بالجيش العراقي. هذه الصور هي الرد على الحكومة العراقية وعلى سياساتها القاصرة والطائفية.. فصور الجيش العراقي الهارب من الرمادي لم تكن تضليلا إعلاميا بل كانت تتويجا لفشل, وهي إذ تقول ما قالته عن الجيش وعن الحكومة في العراق تعود وتكرر نفس السيناريو في تدمر السورية التي باتت ”داعش” تسيطر عليها. لا يمكن أن تواجه ”داعش” بالمذهبية والفساد والطموحات الإمبراطورية الفاشلة. ولربما نحن لسنا في المرحلة النهائية من عمر ”داعش” بعد, فما يجري يجدد انبعاث الروح في هذا التنظيم الشيطاني, فالجيوش والتحالف والقصف لم يعن هزيمة للتنظيم.. إنه فصل جديد للحرب المذهبية والكلام عن تضليل إعلامي لتفسير انتصارات ”داعش” هو في الحقيقة هروب من الاعتراف بانتكاسات أنظمتنا..