في عوامل السياسة الغريبة لا توجد علاقات ثابتة أبدا. هذه قاعدة معروفة وأثبتتها الأيام. تذكرت هذه المقولة وأنا أتابع الأخبار والتغطية الإعلامية لافتتاح فرع لبنك الصين الصناعي التجاري (وهو أكبر بنوك العالم قاطبة) في العاصمة السعودية الرياض. ويأتي افتتاح الفرع كخطوة مهمة جديدة لتوضيح العلاقة الاقتصادية المتنامية بين البلدين، ولكن الأمور لم تكن دائما على هذا الوضع الجميل. لقد كانت هناك قطيعة سياسية قائمة بين البلدين، السعودية مثلها مثل معظم دول العالم آنذاك كان لديها قلق وتخوف وهواجس من التمدد الشيوعي والمشروع الشيوعي عموما، فلم تعترف السعودية بالصين الشعبية، واعترفت فقط بجمهورية الصين الوطنية والمعروفة اليوم باسم تايوان، وكان لديها علاقات تجارية مهمة للغاية معها، وكانت الصين الوطنية حريصة كل الحرص على إرضاء السعوديين، لأن اعترافها بها من قبلها هو مفتاح لها للدخول على العالم العربي والعالم الإسلامي من بوابتها، وقد شاهدت دلائل ذلك الأمر بعيني عندما كنت في زيارة للعم فوزي شبكشي في تايبيه عاصمة تايوان، وكان وقتها سفير المملكة العربية السعودية لديها، ولاحظت الحفاوة التي يلقاها في المناسبات التي يحضرها، وأن الحكومة الصينية خصصت له أكبر موكب في البلاد بعد موكب رئيس الجمهورية نفسه. ولكن مع حصول الانفراجات السياسية في الصين وتغير النظرة الصينية إلى العالم بعد لمسات الإصلاحي الكبير ونج زياو بيج، وهو الذي جاء إلى حكم الصين بعد رحيل قائد الثورة الثقافية فيها وصاحب الكتاب الأحمر المعروف ماو تسي تونغ، وقام ونج بكثير من الإصلاحات المهمة أهمها التركيز على الإنتاج والاقتصاد وبهذا التحول بدأت الصين في تطوير بنيتها التحتية والدخول الجاد والقوي في عوالم المنافسة الاقتصادية، واعترفت السعودية بها دبلوماسيا وزاد التبادل التجاري بينهما حتى غزت المنتجات الصينية الأسواق السعودية، وأصبح للشركات الصينية حضور مهم في كثير من القطاعات المختلفة بتميز ونجاح غير عادي. وطبعا كانت هناك صفقة الصواريخ الصينية المعروفة باسم ”سيلك وورم”، وهي الصفقة التي جرت بسرية تامة، وفاجأت العالم بأسره حين إعلان تفاصيلها. وتطورت العلاقات أكثر لتحصل الشركات الصينية على عقود مهمة في السعودية في مجالات المقاولات المدنية والسكك الحديدية، والصرف الصحي على سبيل المثال لا الحصر، وتدخل شركات سعودية عملاقة في استثمارات هائلة في الصين نفسها، كما فعلت ”أرامكو” و”سابك”، وأصبحت بالتالي مشاركة السعودية في معارض ومؤتمرات الصين ومشاركة الصينيين في معارض ومؤتمرات السعودية مسألة عادية للغاية. واليوم تعتبر الصين أحد أهم عملاء النفط السعودي ومشتقاته البتروكيماوية بلا جدال، والسعودية لإدراكها ولحرصها على تقوية العلاقات مع التنين الأحمر، الذي يزداد قوة أرسلت عددا محترما من طلبتها للدراسة في الصين ضمن برنامج الابتعاث الخارجي، وفتحت مكتبا للهيئة العامة للاستثمار هناك لجلب الشركات الصينية. الصين تسعى لتطوير بنيتها التحتية لتصبح الأحدث في العالم، وتصرف على ذلك مئات البلايين من الدولارات، ولكنها تدرك أنها لا تزال بعيدة في الوصول إلى جدارة دول مثل أميركا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا واليابان وكوريا الجنوبية في قوة ومصداقية وجودة منتجاتهم، فلا تزال ”سمة” المنتج أنها رخيصة ولا تدوم، ويجيب المدافع عن طموح الصين بالقول هكذا كانت ذات يوم منتجات اليابان وكوريا الجنوبية انظر إليهما اليوم! الصين تنوي الدخول بقوة شديدة جدا في عالم الفضاء والطيران والسكة الحديد السريعة، والسلاح والأمن والطب والبحث العلمي حتى تنال المكانة المميزة التي تسعى إليها وتمكنها من الوصول إلى أقوى اقتصاد في العالم، فهي اليوم مجرد ”ورشة رخيصة” لبضاعة العالم لا أكثر وهي مسألة لا ترضي طموح الصينيين أبدا. المقاربة بكيف كانت العلاقات ذات يوم بين السعودية والصين، هو نموذج مصغر للعلاقات بين الدول عموما، تتغير حسب الظروف وحسب المصالح فلا توجد علاقات دائمة ولا حال يدوم.