أثارت قضية الصفقة العسكرية الأمريكية لتايوان بقيمة مالية تقارب ستة ملايير ونصف مليار دولار رد فعل عنيف من قبل بكين على واشنطن، تمثل في وقف وتأجيل التعاون العسكري بينهما، مع استدعاء السفير الأمريكي لتبليغه الاحتجاج الرسمي، وفي الوقت ذاته هددت بفرض عقوبات تجارية على الشركات الأمريكية التي تمد تايوان بصواريخ باتريوت وطوافات بلاك هوك وسفنا كاسحة للألغام. إذ تعتبر الصين أن الصفقة تعد بمثابة الاعتداء الخارجي على السيادة الوطنية ومساس بالوحدة الترابية للصين، خصوصا وأن واشنطن سبق لها وأن اعترفت بوضع الصين الواحدة بموجب البيان المشترك لسنة ,1978 والذي يقضي بإنهاء العلاقات الدبلوماسية الأمريكية مع تايوان، وإنهاء العمل بمعاهدة الدفاع المشترك بين تايوان وواشنطن وسحب القوات الأمريكية منها، وكان الاتفاق الدبلوماسي أن تتم التسوية السلمية بين بكين وتايوان في إطار الوطن الواحد، لكن السياسة الأمريكية التي قبلت بهذا الوضع السياسي لمستقبل تايوان، عملت على تقوية النظام في تايوان بما يسمح له بمواجهة أي تهديد صيني أو ضم الجزيرة بالقوة، وهو ما جعل الكونغرس غداة التوقيع على البيان الأمريكي الصيني المشترك يسرع لإصدار قانون يعرف بلائحة العلاقات مع تايوان، يوصي بتنظيم العلاقات غير الرسمية مع حكومة تايوان هي أقرب في التعامل الدبلوماسي مع دولة قائمة بذاتها وليس كيان سياسي لا يملك الحقوق القانونية لإقامة الدولة، بحيث أصبحت مكاتب تمثيلية لتايوان في الولاياتالمتحدةالأمريكية لديها الصفة الدبلوماسية الكاملة من حيث الحصانة الدبلوماسية والامتيازات مع تعيين موظفيها وفق الأعراف الدبلوماسية، وفوق ذلك كله طالب الكونغرس باتخاذ خطوات لضمان أمن تايوان وحمايتها من أي اعتداء صيني أو أي محاولة لإخضاعها لسيادتها بالخيار العسكري. ومن هنا تأتي مجموعة الصفقات العسكرية الأمريكية لتايوان، ولم تكن هذه هي الأولى من نوعها فقد سبقتها صفقات أثارت قلق الصين كما حدث في أكتوبر 2008 عندما جمدت الصين التعاون العسكري مع واشنطن لمدة ثمانية أشهر، وتجاوزت قيمة الصفقات العسكرية 30 مليار دولار منذ قانون الكونغرس الذي يوصي بتقديم الحماية الأمنية لجزيرة تايوان، وحجة واشنطن في هذه الصفقات أن تدفع تايوان لتقوية سياستها الدفاعية الردعية، لصد أي هجوم عسكري محتمل عليها خصوصا وأن الحكومة في تايوان تشهد التهديد اليومي عليها من خلال 1500 صاروخ صيني موجه نحوها، لإبعاد أي خيار انفصالي للجزيرة عن الوطن الأم أو أي استفتاء يخير بين الانفصال أو الانضمام، لأنه بالنسبة لبكين المسألة التي كانت محسومة لصالح انضمام تايوان قد تراجعت في أرض الواقع بفعل الزمن الذي أبعد التسوية السلمية، ولم يعد سيناريو هونغ كونغ التي عادت إلى الصين بعد 99 سنة من الوجود البريطاني السيناريو الأقرب للحدوث في الواقع، فالرأي العام في تايوان بنسبة 90 بالمائة مع استقلال الجزيرة، كما تصاعد تيار الوطنيين والاستقلاليين في تايوان، وهو ما جعل الصين تدرك هذا الخطر الذي يهددها في وحدتها الترابية مما جعل البرلمان الصيني يصدر في مارس 2005 قانونا لمناهضة الانفصال في تايوان، يمنع بموجبه إجراء الاستفتاء مع التحذير باستخدام الخيار العسكري في حالة إصرار على الاستقلال، ونتساءل هنا، هل يمكن للصين أن تستخدم الخيار العسكري في حالة إعلان الاستقلال في تايوان؟ إذا نظرنا إلى التوجه العام للصين فإنها مع الخيار السلمي في تعاملها مع تايوان، أي بتعزيز الأدوات التعاونية التي تؤدي إلى خلق مصالح متبادلة، مع جعل تايوان في تبعية للسوق الصينية وخلق نخب في تايوان تصبح لديها قناعة أن مستقبلها في الانضمام للصين للتكامل الاقتصادي والمالي لما توفره السوق الصينية بما يقارب مليار ونصف مليار نسمة من سوق استهلاكية واعدة، وتبدو هذه القناعة قائمة بين البلدين إذا أمسكنا بيدنا تلك الإحصائيات التي تشير إلى أن التبادل التجاري بين البلدين قد وصل سنة 2007 إلى 103 مليار دولار لتصبح الصين الشريك التجاري الأول لتايوان، وتمثل الصين نسبة 22 بالمائة من إجمالي التبادلات التجارية الخارجية لتايوان، مع إدراك الصين لهذا التحول السلمي والتعاوني بحيث أضحت تايوان تصدر 30 بالمائة من منتجاتها إلى السوق الصينية مقابل 13 بالمائة من وارداتها تأتي من الصين. قراءة هذه الأرقام بمعزل عن التوترات السياسية والعسكرية توحي بأن التراث الفكري والإيديولوجي الكونفوشيوسي الذي أعطى السياسة الصينية القدرة على الصبر وتحمل الآلام قد يمكن الصين من تجاوز أي توترات سياسية، في الوقت الذي لا تسمح بالتعدي على كرامتها وسيادتها في تايوان وهذا هو الخطاب السياسي الذي سمعته واشنطن بعد صفقة التسلح، مما يجعل التنين الصيني يتحرك لترهيب المتربصين به ويحذرهم من أن وقت النوم لا يمكنه أن يستغرق إلى ما لانهاية، فبكين تملك أدوات للضغط على واشنطن وقد تطبق سياسة واحدة بواحدة، إيران مقابل تايوان، وكوريا الشمالية مقابل تايوان، وأفغانستان مقابل تايوان، واليونان مقابل تايوان، أي أن الصين لديها مجموعة من الخيارات التي قد تضغط بها على واشنطن للتراجع عن الصفقة العسكرية أو تقليص قيمتها، فيمكن لبكين أن تذهب بعيدا في مساعدة إيران على اكتساب القدرة النووية السلمية التي تجعلها تتحكم في التخصيب النووي التي يعطيها القدرة على ولوج النادي النووي العسكري، وهو الملف الذي يمكن الصين أن تحبط أي عقوبات ضد إيران في مجلس الأمن باستخدام حق الفيتو، كما يمكن للصين أن تتردد في إعطاء عملتها قيمتها الحقيقة للاستمرار في فرض بيئة تنافسية لصالح منتجاتها في الأسواق العالمية. وواشنطن تدرك هذه الأوراق التي هي بيد بكين، لكن في الوقت ذاته لم يعد لواشنطن إلا خيار وحيد للرد على هذه الأوراق، وهي أن تلعب داخل المربع الصيني، فتايوان تمثل الحاجز الاستراتيجي والطريق البحري الحيوي لتجارة الصين الخارجية ولتأمين إمداداتها من الطاقة التي ستحتاج إلى 80 بالمائة من الخارج في حدود ,2030 ثم أن اليابان التي تعد المنافس التقليدي للصين تستحوذ على 70 بالمائة من الطرق البحرية في جنوب بحر الصين، مما يجعل واشنطن تبقي التحالف الإستراتيجي مع اليابان لمحاصرة الصين في بحر الصين، والأخطر من ذلك كله أن واشنطن دخلت إلى المطبخ الصيني وحاولت أن تلعب ورقة التبت بدعم سياسي لزعيمها الروحي الدلاي لاما الذي سيزور واشنطن في الأيام القادمة وقد يستقبله الرئيس أوباما، وهي رسالة أخرى من واشنطنلبكين بأن مستقبل استقرارها الداخلي سيكون بيد واشنطن كما تهدد بكين بتلك الأوراق في القضايا النزاعية التي تشهدها واشنطن في آسيا من كوريا الشمالية إلى أفغانستان ومرورا بالعراق وإيران، فليس من السهل أن نتصور أن يكون للصين خيار استخدام القوة العسكرية بتلك السهولة التي تهدد بها تايوان، وفي الوقت ذاته فإن أي نزعة استقلالية لتايوان في المستقبل قد يغذي الأقليات الإثنية في الصين من التبت والمغول، إلى المسلمين، فصانع القرار في الصين بين خيارين أحلاهما مر، مراقبة الإنفاق العسكري المتصاعد لتايوان الذي وصل إلى 10 ملايير دولار في سنة 2009 مع صعود نزعة استقلالية في داخل جزيرة فورموزا ، أو استخدام القوة العسكرية وهي تدرك أن واشنطنواليابان لا يمكنهما أن يبقيا مكتوفي الأيدي.. وذلك كله اختبار لقوة الصين على تحمل الأذى الخارجي.. فهل سيبقى كونفوشيوس صابرا ؟