المتتبع لسياسات نتانياهو في الأزمة الحالية التي وقف فيها عارياً أمام المسألة الفلسطينية المكشوفة الوجه سيرى أنه عالجها من خلال شن حرب كلامية عليها وعلى رموزها. وفي الحرب الكلامية كما في الحرب، ذهب إلى أبعد نقطة ممكنة بمحاولة ربط الفلسطينيين بالمحرقة اليهودية كمسببين لها علماً بأنهم مرتبطون بها من زاوية أخرى. فالفلسطينيون، بمعنى ما، هم ضحايا لضحايا النازية من اليهود! وهم لا يزالون يدفعون ثمن عقدة أوروبا المسيحية وشعورها بالذنب تجاه اليهود عن قرون من المجازر وصولاً إلى المحرقة النازية. ويبدو أن نتانياهو ولفيف مستشاريه استدركوا الأمر فانتقلوا إلى موضوع مناوب آخر. وكانت الذكرى العشرون لاغتيال رئيس الحكومة اسحق رابين الموقّع على اتفاقيات أوسلو بيد ناشط يميني ينتمي إلى التيار القومي - الديني حيزاً للهروب. على أي حال فلجوء نتانياهو إلى هذه الفِرية بحق الفلسطينيين ليس جديدا في السياسة الإسرائيلية. ففي الحقبة الناصرية عمد بعض القادة في إسرائيل على إسقاط النازية وتمثيلاتها عند اليهودي المتوسّط على الناصرية. وفي عزّ أبو عمار وذروة القضية، تم إسقاط التمثيلات النازية على القيادة الفلسطينية ومشروعها الوطني. وهاهو نتانياهو يفعل ذلك في وضح النهار من خلال الإستناد إلى دراسة ”أكاديمية” لمؤسسة بحث يمينية يمولها عرّابه شيلدون إدلسون صاحب دور الكازينو في مواقع عدة من العالم. وهو يفعل للأهداف القديمة نفسها: إسقاط كل شرعية عن المشروع الوطني الفلسطيني وتبرير الاحتلال وتسويغ القمع والاستيطان والتحكّم بمصير الشعب الفلسطيني وأرضه وموارده ومصيره. وفي الراهن، تبرير موجة التصعيد الحالية بحق الفلسطينيين والحرم القدسي. أما الهدف الأعمق فصدّ الانتقادات الداخلية لسياساته وتكريس ثقافة شعبوية منفلتة في عنصريّتها واستعلائها ودمويتها بنزع إنسانية الفلسطينيين وتحميلهم، وهم الضحية، وزر كل ما لحق باليهود وصولاً إلى المحرقة. قد يكون قائداً خاوياً من أي ألمعية لكنه يقيناً ذكي في محاولته قلب صورة الواقع رأساً على عقب. فهو بفريته يواصل محاولاته تصوير اليهود على أنهم ”الضحايا بامتياز”، وليسوا ضحايا العالم أو النازية بل الفلسطينيين تحديداً بوصفهم ”المسؤولين عن المحرقة”! هكذا، يكون قطع الطريق في إطار الحرب الكلامية أو حرب التمثيلات على صور تبثّها الشاشات والشبكات يومياً عن أطفال يقتلهم جنود الاحتلال الاسرائيلي أو يقودونهم إلى المعتقلات. ولنقرّ للرجل أنه نجح على الأقل في ساحته الداخلية وإن كنا نشهد نقداً متزايداً لسياساته هذه في المحافل الإسرائيلية نفسها. إنه فنان محترف في تحديد الأجندة اليومية للنقاش العام في إسرائيل ووجهته ومواضيعه. وهو سريع في تغيير هذه الأجندة ضمن التوجّه اليميني نفسه. ونشاهد يومياً كيف أن الإعلام الإسرائيلي بغالبيته لا سيما المتلفز يميل إلى تبني خطّ نتانياهو وخطابه من دون استئناف. هذا على رغم أن صحيفتين مهمتين مثل ”هآرتس” و”يديعوت أحرونوت” تناصبانه العداء المكشوف، خصوصاً الأولى التي تنظّم بعد أيام مؤتمر سلام محاولةً منها للردّ على سياسات الحرب التي يعتمدها. نرجّح أن القيادات الفلسطينية في السلطة وفي مؤسسات المجتمع المدني تُدرك لعبة نتانياهو هذه لكننا لا نرى منها أي ردّ فاعل لا في مستوى الإعلام العربي ولا في ذاك الدولي. وما نراه ونسمعه ونقرأه لا يرتقي إلى مستوى ماكينة نتانياهو ولا حِيَلِه الإعلامية. بل من اللافت أن دور بعض المؤسسات الإعلامية الفلسطينية لا يتعدى اقتباس مواد إعلامية غربية المصدر أو الردّ بأسلوب فج غير ناضج لا سياسياً ولا معرفياً. وهكذا فالواقع على الأرض الذي يميل لصالح الرواية الفلسطينية (احتلال وقمع واستحواذ وفصل عنصري) وكون نتانياهو عارياً أمام سلمية أبو مازن وهشاشة القضية وضعف الشعب ضحية الاحتلال يتحوّل في الحيز الإعلامي الفلسطيني (وبالمناسبة الإعلام الممانع والعربي عموماً واقع في المطبّ نفسه) إلى بائس لا سيما أمام إعلام إسرائيلي متحفّز للإنقضاض على الضحية الفلسطينية حتى عندما يكون جرحها مفتوحاً ينزّ دماً وموتاً. هناك حاجة ماسة في مثل هذه المنعطفات لردّ فرية نتانياهو عليه. ولا بدّ من أهمية خاصة تُعطى للحرب الكلامية وحرب التمثيلات في عالم تتحرّك فيه الصور والمرئيات كوسائط تحمل الأفكار والقِيَم والروايات.