لننسى أمر الدستور الذي صار الآن أمرا واقعا، وسيصوت عليه البرلمان غدا ب”نعم” مهما كانت المعارضة له. لنلتفت إلى الجنوب الكبير، هناك حيث تقبع كل حلول أزماتنا المتكررة. لا أتحدث عن النفط والغاز، ولا عن الغاز الصخري الذي ستجبر أسعار النفط المتهاوية المدافعين عن استغلاله، التخلي عن مشروعهم، الذي سيكلفهم استغلاله أضعاف مردوده. في الجنوب حيث الأراضي الواسعة والشمس الساطعة وبعيدا عن التلوث، بدأت نساء عين صالح يقفن وقفة رجال، متحدين عبث السياسة والخيارات السياسية التي لم تجد طريقا للخروج بالبلاد من التبعية إلى النفط المرهونة بأهواء البورصات العالمية وتقلبات السوق، بعد أن صارت أمريكا هي الأخرى تستعمل هذه المادة في حروبها الاستراتيجية كسلاح لكسر شوكة خصومها. نشرت صحيفة الوطن، الأسبوع الماضي، تحقيقا يعيد للقارئ شيئا من الأمل الذي افتقده الجزائريون في زحمة الأخبار المحبطة، حيث جاء أن نساء عين صالح يقمن بمشاريع فلاحية من زراعة وتربية أسماك في الأحواض، على نطاقات واسعة، تحديا لمشاريع الغاز الصخري التي تهدد المنطقة بالتلوث والقضاء على التنوع البيئي هناك. مشاريع تنبئ بمستقبل جميل لهذه الأراضي التي عانت سنوات من غياب المشاريع التنموية، فهذه الجنائن التي ستدر على الأسر الكثير من الخيرات، من خضر وفواكه ولحوم وأسماك، ليس فقط ستقلل من فاتورة الواردات التي ستنخفض رغما عن إرادتنا، بسبب انهيار أسعار النفط وما تلحقه بالميزانية الغذائية، بل أيضا ستفتح للكثير من الشباب فرص عمل واستقرار وتعمير للمنطقة. فقد أثبتت التجارب وسوء الخيارات في السياسات الوطنية المتعاقبة أن ثروة البترول والغاز كانت وبالا على سكان الجنوب، بل على الجزائر ككل، لأننا ولكثرة ما اعتمدنا على مداخيل المحروقات، أهملنا الفلاحة وحولنا الأراضي الخصبة إلى بور. هذا إذا ما نجت من غزو الإسمنت. إنها أحسن طريقة لحماية البيئة من التلوث، وأيضا لتخفيف الضغط السكاني عن الشمال. مشروع تعمير الصحراء واستغلالها في الزراعة وتربية الأسماك ليس بالجديد، وقد أثبتت تجربة استصلاح أراض واسعة في بسكرة والوادي، جودة هذه الأراضي ومردودها المتنوع والذي لا يخضع لمواسم بعينها، حيث صارت الغلال التي كانت حكرا على فصل معين، متوفرة في كامل فصول السنة، هذا المشروع بإمكانه أن يغذي سكان الأرض كلهم مثلما أكد ذلك سفير اليابان السابق بالجزائر، والذي قال قبل مغادرته بلادنا، إن أرض الجزائر وشمسها قادرة لو أحسن استغلالها على توفير الغذاء لكل البشر، بل بإمكان هذا الجنوب الخلاب بمناظره وواحاته وبمواقعه الأثرية التي تعد من أقدم الآثار البشرية على الأرض، أن يخلصنا أيضا من التبعية للنفط، بإحداث ثورة سياحية هناك، مثلما تفطنت له الإمارات، التي تحررت هذا الأسبوع من اقتصاد النفط بتصديرها لآخر برميل لهذه المادة الأحفورية، ويعتمد اقتصادها اليوم كليا على الخدمات وعلى رأسها السياحة، وأيضا التجارة بعدما صارت قطبا تجاريا يربط كل الدول وكل القارات بها. ليس أمامنا من مخرج غير هذا، لنوجه كل جهودنا التنموية إلى الجنوب، فقد أثبتت لنا نساء عين صالح اللواتي خرجن السنة الماضية في مظاهرات ضد الغاز الصخري، أن قدرنا ليس مرهونا بالنفط والغاز، وها هي جنائهن تعطي أحسن مثال للسلطات على ذلك، فالتحدي ليس بالانتفاضات والتكسير وقطع الطرقات ونصب المتاريس والحرق والغضب، التحدي هو هذا، تعمير الأرض، والعودة إلى الأصل إلى الفلاحة والأرض هي الثروة الوحيدة التي لا تنضب ولا تلوث، وبقدر ما يعطيها صاحبها من جهد وعمل، تعطيه بغير حساب، فهنيئا لفحلات الجنوب ولنعد إلى الأصل! حدة حزام *************** في قلب المحمية!
وقف السائق أمام مركز الدرك الوطني على مدخل محمية نادي الصنوبر، نزل باحثا عن أحد معارفه ليسمح له بالمرور، فلم يجده. وسرعان ما جلبت السيارة السوداء انتباه الدركي الذي ارتاب لأمر محدثنا، فسارع لرفع سلاحه في وجه السائق، ونادى زملاءه خوفا أن تكون السيارة مفخخة. أمروا السائق بفتح الصندوق وغطاء المحرك وكل الأبواب، ليتأكدوا أنها لا تحمل متفجرات. صرخ أحدهم وهو يرى وجه الزائر الغريب، من هذا؟ هل هو شبح بومدين؟.. يا الله إنه هو، إنه هو! ”هوّن عليك”، رد عليه السائق بسرعة، سبحان من يخلق من الشبه أربعين، هذا شخص عادي، صحيح أنه يشبه الرئيس الراحل لكن ليس هو، ثم استدار بسرعة نحو الرئيس محدقا إليه بغضب، عندما حاول هذا الأخير تكذيب سائقه. ”أنا، أنا.. أ.. أ..”، كان يريد أن يعرف بنفسه فهو لا يفهم كيف لا يعرفه هذا الدركي، أليس هو الرئيس، أليس هو من صال وجال في ربوع الجزائر..؟”. وبعد أخذ ورد، أخرج السائق بطاقة مرسوما عليها أشرطة بلون العلم، وإذا بالدركي يقدم له تحية عسكرية، ويرفع أمام سيارة ”الدي أس” العارضة، فتدخل إلى قلب المحمية، ويعود الرئيس لأول مرة إلى عرين الأسد، إلى أحد الأماكن المحرمة على المغضوب عليهم، المكان الذي لا يدخله إلا ذوو الجاه وعاليو الهمم! ”ماذا قلت له، وهل أنت عسكري ليرفع لك تحية عسكرية؟!”، يسأل الرئيس مرافقه: ”لا! لست عسكريا، هي مجرد بطاقة قديمة أحتفظ بها لمثل هذه المواقف.. معذرة سيدي الرئيس لست نصابا، والبطاقة تحمل تاريخا قديما، لكن لهذه الألوان سحرها، عند الناس البسطاء، وهل كان المسكين سيعرض نفسه لغضب أحدهم، لو أراد التحقق من البطاقة؟ ربما كان سيكلفه ذلك منصبه أو يسجن عقابا له على سوء الأدب أمام مسؤول سام!”. ”ألهذا الحد ساءت العلاقة بين الجزائريين؟”، يسأل الرئيس. ”وأكثر سيدي الرئيس.. لقد ظهرت في السنوات الأخيرة طبقة في هذا المجتمع، لا يمكن تصنيفها وانتماؤها، تسمح لنفسها بالدوس على القوانين، والاعتداء على المواطنين لأتفه الأسباب والتهمة جاهزة، الانتماء إلى الإرهاب، أو خيانة الوطن، هناك من بمجرد أن يسكن المحمية، يصبح شخصا فوق القانون. المكان يعطي حصانة لسكانه، وأنت تعرف ماذا تعني الحصانة”. ويضيف السائق الذي بدا عليه شيء من القلق وهو وكأنه تذكر حادثة وقعت له شخصيا، فمنذ سنوات كان إطارا ساميا في الدولة، لكن رياح التغييرات عصفت بنجل عمي الطيب، وبالكثير من الطييبين، ليس الوقت الآن لسرد هذه المأساة، فزيارة الرئيس ما زالت ستطول وسيروي تفاصيلها المؤلمة، قصة تختزل كل معاناة أحرار هذا الوطن أيام الأزمة وقبلها. صحيح أنه خرج منها بأقل الخسائر، عكس الكثير من زملائه، لكن أوجاعها ما زالت تؤرق الرجل، وما زال في حلقه مرارة المظالم التي تعرض إليها. تسير السيارة ببطء بين مساكن المحمية، وقد فتح الرئيس نافذته، ليرى عن قرب هذا المكان الذي كثيرا ما تردد عليه.. يتوقف السائق أمام إحدى الفلل.. ويسأل الرئيس: ”أتدري لمن تعود هذه الفيلا الفخمة؟”. ”وكيف لي أن أعرف، ثم أليست هذه ملكية الدولة؟”. ”كانت ملكية الدولة، أما الآن فهي ملكية ورثة المرحوم الرئيس الذي سجنته طوال سنوات حكمك، الرئيس بن بلة، أو بالأحرى نجيب الجزائر، الذي انقلبت عليه بعد أن نصبته رئيسا بعد أزمة 1962، مثلما انقلب جمال عبد الناصر على محمد نجيب، وكان هو من نصبه رئيسا لمصر بعد ثورة الضباط الأحرار. هذا مسكن بن بلة. وليس هذا فقط، فقد منحت له فيلا فاخرة في أعالي العاصمة في حي حيدرة الراقي، تلك التي كان يسكنها أحد رجالك، عبد الغني. هنا استعاد الرئيس بن بلة مجده، وهنا أعيد له الاعتبار الذي يستحقه، وهنا أقسم بأغلظ الإيمان أن يكون لرجاله الذين كانوا يحلقون حوله شأنا آخر. كان لهذه الفيلا وسط المحمية دور لا يقل أهمية عن دور مكتبك في المرادية، وكم أصدرت قرارات وسياسات من هذا المكان”. ”أتدري - يسأل السائق الرئيس - أتدري أن 19 جوان، لم يعد عطلة مدفوعة الأجر، ولم يعد يسمى بتاريخ التصحيح الثوري، بل يسمى انقلابا. أتدري أن كبيرهم قال إنه مهما فعل للرجل، وحتى لو حمله على أكتافه فلن يوفيه حقه؟!”. يضحك الرئيس باستهزاء، ليس لأن نجيب الجزائر استعاد مجده، بل ضحك من كلام هذا الذي لن يوفيه حقه. وحتى وإن لم يذكر السائق المعني بالاسم، فإن الرئيس يعرف جيدا من يكون. ”بل إنه تصحيح ثوري” يؤكد الرئيس، نعم تصحيح ثوري، ألم تقل لي أن بن بلة في آخر أيامه قال في حوار لصحيفة فرنسية، إنه ليس جزائريا، بل مغربي ويعتز بكونه مغربي؟ أنسيتم أنه كاد يقدم بلادنا على طبق من ذهب إلى مصر عبد الناصر، وكاد يلحق بنا من الأضرار ما لحق بسوريا بعد الوحدة مع مصر؟ ألم يصف عبد الناصر الجيش السوري من شبابه وإطاراته، أحال ضباطا شبابا على التقاعد، ليعوضهم بشيوخ من الجيش المصري والكارثة أنه كان سيحول كل ذهب سوريا إلى بنوك مصر لولا تدخل أحرار سوريا. اقرأ ما كتبه الحناوي وستفهم جيدا ما كان يحدق بنا، نعم إنه تصحيح ثوري، وليس انقلابا!”، يرد الرئيس بغضب. ”وماذا تسمي أحداث 1962، هل هي الأخرى تصحيح ثوري أم انقلاب على إرادة الشعب وعلى مجاهدي الداخل الذين هم وحدهم يستحقون لقب مجاهد، بماذا تسمي هذا، أليس من هنا بدأت المأساة؟”، يعلق السائق على كلام الرئيس، لكن الرئيس يحاول مرة أخرى التهرب من الحقيقة. ”هيا! سر بنا إلى قاعدة المؤامرات، عفوا المؤتمرات!”، محاولا تلطيف الحديث بشيء من المزاح، لكن السائق لم يبتسم! - يتبع -