”هذا الرجل وهبنا الأرقام” هو عنوان الكتاب الجديد الذي صدر للكاتب وأديب الرحلات الإيطالي باولو تشامبي، عن دار النشر الإيطالية ”مورسيا” ويقع في 180 صفحة، والذي يتناول فيه حياة العالم الرياضي والرحّالة الإيطالي ليوناردو فيبوناتشي (الذي ولد في بيزا في عام 1170)، والذي حمل الأرقام العربية من الجزائر إلى إيطاليا وأوروبا بعد إقامة له في القرن الثاني عشر في مدينة بجاية مُفتتحاً بذلك عصراً جديداً للتقدّم العلمي والعمراني، وبالذات للرياضيات وعلوم الحساب، ليس في إيطاليا لوحدها، بل في أوروبا وفي العالم بأسره. ولم يكن للتطور العلمي أن يتحقق بالإيقاعات التي شهدتها في القرون التسعة الأخيرة لولا الفراسة التي تمتّع بها فيبوناتشي بالتقاطه الزّمُرّدة التي وجدها أمام ناظريه في بجاية، وأنقذ عبرها أوروبا من أسْرِ الطريقة السابقة في عمليات الحساب المعتمدة على استخدام الأبجدية اللاتينية واستخدام بعض الحروف اللاتينية للدلالة على الأرقام. وباولو تشامبي كاتب وصحافي فلورانسي بدأ حياته العملية محرّراً في عدد من الصحف الإيطالية وتخصّص في أدب الرحلات وكتابة سير الشخصيات المشهورة والمتميّزة. يُعيد باولو تشامبي صياغة الآصرة الأولى لشخصيته مع بجايةالجزائرية من حيث أجواؤها وحياتها، وبالذات آصرته الفارقة مع المعلّم الأول الذي أنار له الطريق. وكان ليوناردو فيبوناتشي قد انطلق من مدينته بيزا، (مدينة البرج المائل) ممتثلاً لطلب من والده الذي كان يعمل هناك، وبعد وصوله إلى هناك بفترة قصيرة تعرّف على الأرقام العربية وعاد بها إلى مدينته بيزا. ليوناردو فيبوناتشي شَرَعَ بوّابات للعلم والحضارة والتقدّم، عندما نطق بالأرقام العربية ووهبها إلى إيطاليا وأوروبا. ويقول باولو تشامبي بأن الكتاب ولد لديه من الحاجة للبحث في حياة شخصية كان يُلاحقها منذ زمن طويل، حيث يقول ”كانت فيّ رغبة عميقة للتعريف بشخصية هي ليوناردو فيبوناتشي الذي كان يستحق أن يتعرّف القرّاء على ما قدّمه لنا وللمستقبل”، ويُضيف ”كان فيبوناتشي الحلقة الأهم في سلسلة وصول الأرقام وعلوم الرياضيات العربية إلى أوروبا. وبما أنه فعل ذلك في زمان تميز بالمواجهة والتصادم والتوتر، فقد كان في ذلك رجل سلام ورحّالة كبيراً وشخصية تُعلّم كيفية الاستزادة من المعارف العلمية الهامة أينما حلّت، كما فعل هو في استزادته من حقل الرياضيات الذي كان عامرا في الضفّة الأخرى من المتوسط، وحملها معه إلى أوروبا المسيحية التي كانت تتميّز بالتخلّف شبه المطلق على صعيد هذه الحقول والدراسات”. يركّز باولو تشامبى على أهمية عنصر الشباب في نقل المعرفة فقد ”تمكّن فيبوناتشي من مسعاه هذا من خلال رحلته إلى ضفة جنوب المتوسّط. كان حينها في مقتبل الشباب ولمّا يزل بعدُ فتى يافعاً حين استدعاه والده إلى بجاية في الجزائر، حيث كان يعمل قانونياً لعدد من التجار الإيطاليين في المدينةالجزائرية. استدعاه الوالد وأسكنه في فندق في المدينة لأنه أدرك أن بإمكان ابنه أن يتعلم الكثير من ذلك الواقع الحيّ ووفيرِ المعارف، وهي المعارف التي افتقدتها أوروبا في ذلك العصر. كان الوالد واثقاً أن بإمكان ليوناردو الشاب تعلم فنون الحساب ليَفِيدَ منها في التجارة التي كانت مهنة عائلته. كان لمّاحاً ذلك القانوني الذي اكتشف نبع المعرفة في بجاية ”بفراسة الأب القادر على قراءة مقدرات الابن”، يقول باولو تشامبي ”لمس ذلك الرجل بيديه ما كان قائماً في الجنوب، وما كانت تُعانيه أوروبا في تلك المرحلة بسبب ممارسة عمليات الحساب بالأصابع ولاستخدام ال”آباكوس” في الحسابات التجارية”. كان ”الآباكوس” اختراعاً شهيراً وهامّاً، لكنه كان أيضاً بمقدرات محدودة لمواجهة الحسابات الكبيرة، ”وكان الأوروبيون يستخدمون الحروف اللاتينية للإشارة إلى الأرقام”. يقول الكاتب باولو تشامبي ”أبإمكانك أن تتصوّر مقدار الصعوبات التي كانوا يواجهونها في ذلك خلال عمليات الجمع والضرب للأرقام. وهنا بالفعل كانت تكمن فراسة فيبوناتشي الأب الذي ربط ما بين تلك المعارف ومقدرة ابنه في التعلّم والاستزادة، ”فقد عثر على عالم فسيح يُشْرِع أبوابه أمام ابنه، وذلك هو عالم التجارة والتبادل الاقتصادي وتبادل العملات. كان الأب واثقاً من مقدرة ابنه ونباهته في النهل من تلك المعارف ومواجهتها مع المصاعب التي كانت شاخصة أمامه في إيطاليا وأوروبا بشكل عام بسبب التباينات في أدوات التعامل التجاري واختلاف العملات والمقاييس من مدينة إلى أخرى”. وصل فيبوناتشي الفتى إلى بجاية بعد رحلة بحرية طويلة استغرقت ما يربو على ثلاثة شهور. وبمجرّد وصوله إلى هناك أوكله والده في الحال إلى معلّم للرياضيات والحساب في مدينة بجاية ”فتولّه الفتى ليوناردو في الحال بالمعارف الجديدة التي كان المعلّم الجزائري يضخّها إليه”، ويقول باولو تشامبي ”كانت تلك معارف جديدة عليه بالمطلق، هو القادم من أوروبا. بإمكاني الآن أن أتخيّل كيف التمعت عينا ليوناردو واتّقد ذهنه عندما اختطّ المعلّم لتلميذه الأوروبي الشاب الأرقام العربية على بساط الرمل، وكيف التقط هو في الحال مغزى وكنه تلك الرموز التي كانت حتى تلك اللحظة عبارة عن مجرّد ألغاز وأُحجية. ومن بين تلك الأحجيات رقم مُحدّد غيّر جوهرياً عالم الرياضيات والتجارة والعلوم وذلك هو الرقم صفر. هذا الرقم، والذي لم يكن مُتداولاً في الاستخدام الغربي للحساب الرياضي رغم ما يختزن من أهميّة كما ظهر بعد دخول الرقم العربي إلى الغرب. يقول الكاتب باولو تشامبي ”اليوم، وبعد استيعاب العلم لكل مكتنزات هذا الحقل، تبدو جميع الأمور سهلة، وبات من البديهي أنْ تكون لدينا الأرقام كما نعرفها في حياتنا اليومية، إلا أن بلوغ هذه النتيجة كان عملاً جبّاراً تطلّب قروناً عديدة”، ويُضيف ”تستند الثورة التي أحدثتها الأرقام العربية، جوهرياً، على عدّة معطيات من بينها أن أيّ رقمٍ من الأرقام يمكن أن يُؤخّر أو يُقدّم عبر تراتب وتركيب عشرة رموز. أما المعطى الثاني فهو أن ما يمنح القيمة إلى الرقم هو موقعه داخل الرقم المركّب، فلأيّ رقم من الأرقام قيمة ووزن معيّنان قياساً إلى الموقع الذي يحتله في التركيبة المقروءة للرقم النهائي، فلرقم اثنان، مثلاً، قيمة ووزن معّينان إذا ما ورد في خانة العشرات، وهما غير القيمة والوزن إذا ما ورد في خانة المئات، وهكذا دواليك. وحتى يكون كل هذا فاعلاً فإن هناك ثمة حاجة إلى شيء استثنائي بشكل حقيقي، وذلك هو الرقم صفر. فالصفر الذي يبدو الآن في الظاهر أمراً اعتيادياً وبديهياً فقد كان في الحقيقة إنجازاً عظيماً. يكفي أن نعلم بأن الإغريق الذين كانوا أصحاب معارف وعلوم استثنائية في الرياضيات لم يتمكّنوا من استنباط الرقم صفر”. وقد تمكّن العرب من استنباط الصفر ”وحقّقوا بذلك إنجازاً استثنائيا”، يقول تشامبي ”وتنبع هذه الاستثنائيّة من طبيعة رقم الصفر نفسه، والمثير للدهشة فالصفر يمثّل اللاشيء، لكنه يساوي جميع الأرقام الأخرى في الأهمية. إنه الفراغ-الصفر، وليس صدفة أن العرب أسموا الرقم صفراً، فهو الذي يمنح القيمة والنوعية والمغزى إلى الأرقام الأخرى. كان لا بد من شخصيات مثل ليوناردو فيبوناتشي ليحملوا هذا الإنجاز إلى العالم الذي نطلق عليه اليوم اسم أوروبا والغرب. ويأمل الكاتب باولو تشامبي في أن يتمكن القارئ العربي من الاطلاع على حياة رجل قادَتْهُ فراسته وحبّه للعلم وانفتاحه على الثقافات الأخرى إلى تغيير العالم ودفع مسار البشرية إلى الأمام قروناً.