في مجلس شيخ جليل، مهيب الطلعة نافذ النظرة، حلو الشمائل، يجمع كل من رآه وسمع حديثه، بان عنده لكل سؤال جواب، ولكل حيرة هدى وينعتوه بأنه من بقية السلف الصالح ((الذين صدقوا ما عهدوا الله عليه)) . جرى بينه وبين فتى مهذب، ولكنه ضيق الأفق، وكان الحديث في مجمع حاشد، تناول فيه حقيقة الصيام وقضاياه. رأينا عنده كيف تنفجر ينابيع الحكمة، وكيف تنفجر ينابيع الحكمة، وكيف تأخذ الحجة كل ضعيف اليقين، سمعت الحوار ووعيت ما دار، وإليك أخي القارئ ....أختي القارئة أنقله بالتمام. الفتى يجني ثمار حقيقة الصيام.. !! اليوم آخر يوم من شهر رمضان الكريم ...يدخل الفتى المجلس مبتهجا في غاية الانشراح الممزوج بالفرح والسرور ! وحيا الشيخ بصورة من كان غائبا فعاد، تحية تشع بألوان جديدة من مزايا النبل والاحترام . ثم قال لقد فكرت يا سيدي في هذا الصباح الثلاثين من شهر الصيام، بهدية أقدمها لك بمناسبة عيد الفطر المبارك فلم أجد شيئا لم يجد ثقتك بي ومنحك إياي الوقت والتشجيع لأكون ذا وجيد حقيقي لذلك فكرت أن أقدم لك حبي هدية.. وأنا اعرف ان الهدية الخالصة تقدم مجانا وبدون ثمن لكن محبتي لك لم تكن بلا ثمن لأنها جاءت ثمرة من ثمار هداياك ورعايتك لي. نظر الشيخ بصمت إلى عيني الفتى وقد امتلأتا بما يعبر عن إخلاصه وصدقه ووفائه وحبه. كان كلامه وهو يتكلم يتفتح كما تتفتح الورود في حديقة الصباح، لها أطيب الزكية التي صفت من النفاق والخبث .. فهويتكلم بصراحة غير معهودة لا يكتم من وراءها سرا " يقول: كنت يا سيدي من قبل أصوم رمضان متدينا كأعمى وأصلي متذمرا غير واع لما وراء ذلك من حكمتهما وأسرارهما وغير مدرك لحقيقتهما ! فشهر رمضان كان بالنسبة لي ولكثير من زملائي عبارة عن امتناع عن الطعام والشراب والنوم العميق طول النهار، وهو فرصتنا الوحيدة التي طالما ننتظرها كل عام، لنقضي لياليه في سباق محموم لإطفاء لذة مؤقة أوشهوة مغرية أوسهر فنية فاجرة ! أولنيل مكسب من حطام الدنيا حقير، كما نركض بسرعة فائقة تفوق طاقتنا لأجل تحقيق شيء مهما يكن ! يسكت ليمسح دموعه ثم يتابع كلامه .. لقد وقعنا دون أن ندري في مصيدة وضعنا أنفسنا فيها بإرادتنا لم نقدر على الخروج منها، لم نجد من يخرجنا من هذا الفخ إنه فخ يا سيدي ذو أسنان حادة كالأنياب الجارحة، تدخل في اللحم وتعمق إلى نسيج الأعصاب ! إلى أن هداني الله إلى مجلسك فشعرت ولأول مرة بيد رحيمة حنونة تبعث القوة في عروقي ! لقد كنت معك في حوار دائم أبحث فيه عن حقيقة الصيام طيلة الشهر المبارك حوار لا يستوفى غايته، وبقية لم تنته بعد، حوار متفائلا يهمى على الجهة المتعبة فيمسح عرقها ويمتد إلى القلوب فيمدد هواجسها، ويتسلل إلى أعماق الشرايين فيحفزها بالأمل ويمح اليأس والقنوط من نفوسنا، وإني كلما اختليت بنفسي إلا وتذكرت تلك الجلسات الرمضانية والمحاضرات الإيمانية التي تدور كلها حول "حقيقة الصيام" والتي جادت بها قريحتك في أنصع صورة فكل يوم تطالعنا بحقيقة من حقائقه الظاهرة والخفية وتش رح لنا سرا من أسراره العجيبة وحكما من أحكامه التربوية البليغة بصيغة مختلفة فيها بدائع القول وروائع البيان ! لقد كان صوتك يا سيدي يدور في هذا المجلس كل صباح ونبراتك في الأداء تأخذ بمجامع القلوب وتهز الأحاسيس وتحدث تجاوبا مع قراء ومحبي جريدة الفجر اليومية بعيد المدى ! فلقد أوتيت في شرح كل ما هو صعب وغامض، فالله أنت ولله صنيعك يا سيدي، فقد أهديت أحسن العبر للصائمين والصائمات وقدمت المثل العليا للمحتذين! لقد كانت حقا حججا قوية لكل ضعيف اليقين !فشكرا لك يا سيدي وجازاك الله خيرا لقد أخرجتني من التفكير الضيق إلى رحابة الفكر الشاسع فغيرت ما بنفسي، وجعلتني أشعر وكأنني إنسان آخر أبعث من جديد! فتحولت إلى شخص أفضل بكثير من الشخص الذي كنته من قبل فكرا وشعورا ونية وعملا، فضعفت نزعتي الأنانية وانفتحت على الآخرين، وأصبحت أشعر بتأنيب الضمير، إذا ما فكرت بنفسي قبل ان أفكر بإخواني "فلم يكن بإمكاني العودة إلى سابق عهدي، لقد تفتح عيناي وعرفت حقيقة الصيام حقيقة تجذبني إليها جذب الأحبة وشعرت بمعانيها تتزين لي بأجمل أثوابها !؟ وهنا تدخل الشيخ وهويقول بارك الله فيك يا فتى على هذه الاعترافات ولكنك قد نسيت الاتجاهين الآخرين في شكرك يا بني ؟ كان ينبغي عليك يا فتى أن تعيد الفضل إلى صاحب الفضل ! فالله سبحانه وتعالى هو الذي وهبك مواهبك لتستطيع تلقي المعرفة ولتمتلك الرغبة الدائمة في البحث والتعلم، فشكرا لله أولا وأولا وقبل كل شيء وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم الذي جاهد في الله لتبليغ رسالته وتعليمنا كيف نتفكر في آيات الله في الآفاق وفي أنفسنا، وقد كنا بفضل الله وبفضل رسوله صلى الله عليه وسلم خير أمة أخرجت للناس آمنت بربها فاستقامت آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر وما إن انتهى كلامه حتى استوى قائما واقترب الفتى منه كمن يهتم بتقبيل يده ووجهه ! وخرج الشيخ مع فتاه يتوكأ على عصاه وذهبت تتابعه الأعين وتشيعه القلوب، حتى اختفى وراء هضبة ثم غاب عن الأعين بين الأشجار والبساتين في سفح الجبل، وأسرعت لعلي أقتفي أثره فلم أجد له اثرا! وإذا بصوت فتى الشيخ يقول "ها هو ظلك يا سيدي يوحشنا ويتركنا وكأن النفس في مناحة وها هي كلماتك ومواعظك وعبرك ونصائحك جاءت تؤنسنا وتطربنا بقية أعمارنا إن كان في العمر بقية، وشتان بين الوحشة والطرب.."!! عيدكم مبارك وكل عام وأنتم بخير