في مجلس شيخ جليل مهيب الطلعة نافذ النظرة، حلو الشمائل يجمع كل من رآه وسمع حديثه بأن عنده لكل سؤال جواب، ولكل حيرة هدى، وينعتونه بأنه من بقية السلف الصالح "الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه"، جرى حوار بينه وبين فتى مهذب، ولكنه ضيق الأفق وكان الحديث في مجمع حاشد تناول فيه " حقيقة الصيام وقضاياه".رأينا عنده كيف تنفجر ينابيع الحكمة، وكيف تأخذ الحجج القوية كل ضعيف اليقين، سمعت الحوار ووعيت ما دار وإليك أخي القارئ...أختي القارئة، أنقله بالتمام. الصيام عبادة وليس عادة !..؟ انعقد المجلس وأخذ الشيخ يسترسل في حديثه قائلا، هذا شهر رمضان الكريم،وها نحن على أبوابه! فكيف يستعد هل زمانك لاستقباله يا فتى !؟. نظر الفتى إلى الشيخ.. وفي عينه حزنا وحيرة !. وكأنه يخفي شيئا في صدره، يود أن يقوله، وفي نفس الوقت يون أن يخفيه !؟ فقال له الشيخ ألا تتكلم يا فتى!؟ فاغرورقت عيناه بالدموع! ومضى يتحدث بيأس وألم كبيرين ... عن الكيفية التي يستعد بها الناس لاستقبال شهر الصيام فقال: الناس يا سيدي في جهد جهيد للاستعداد لاستقبال شهر الصيام! إنه سعار مادي محرق يجتاح امتنا هذه الأيام !؟. -هذا يشعر بالكآبة في نفسه، لأنه متعود على تناول القهوة أو الشاي أو العصير قبل البدء بعمله، -وهذا المدمن على التدخين، كيف تجيء أفكاره قبل أن يرى سحب لفافته تعبر جو مكتبه أو مكان عمله، وهذا المغرم بطعام الإفطار في الصباح إنه لا يروق إذا لم يترقق، - وهذه المتخيرة من أطايب وألذ الطعام والشراب لأطفالها، فشهر رمضان بالنسبة لهؤلاء شهر حرمان لا فائدة منه، وتقليد ديني لا مبرر لذلك! وجوعا لا تحمله الأعصاب، وعطشا لا تقوى عليه العروق،! والكل يا سيدي حائر كيف يضبط أعصابه وكيف يتحكم في شهواته! -وهذه ربت بيت تجري وراء اقتناء مشتهيات الجسد من الحلويات المختلفة تحضيرا للموائد الزاخرة باللوز السمن والعسل، -وهذا تاجر محتكر لسلع ضرورية ينتظر شهر رمضان لبيعها بأسعار خيالية! !. -وهذه الإدارة.. في سبات عميق والساهرين على قضاء حوائج الناس وحل مشاكلهم في إجازة طويلة!. -والبعض يراه فرصة لا تعوض .. وليس في نظره غير إخلاء للشهوات، ولونا من ألوان معيشة الحشرات، أكل وشرب، واستعداد للسهر في المقاهي والملاهي ..إلى بزوغ الفجر! والعزم على قضاء نهاره في النوم العميق، حتى غروب الشمس! -وهناك من يخطط لخداع عباد الله باللف والهف والغش وأخذ أموالهم بغير حق! -وهناك من يتظاهر بالصيام أمام من لا يعرفونه، ومجاهرا به من لا ينكرون عليه صيامه! هكذا يا سيدي يستعد البعض من الناس لاستقبال شهر رمضان! !. فهل لك يا سيدي أن تطفئ هذا السعار، فتحدثنا عن "حقيقة الصيام" وتبين لنا فضله، وفوائده وأحكامه، وأسراره إن كانت هناك أسرار، وما أعده الله من أجر وخير للصائمات والصائمين في الدارين !؟. انشرح صدر الشيخ لكلام الفتى أيما انشرح وظهر السرور والرضا على محياه .. ثم قال: بلى يا فتى .. واجعل شكري والثناء علي يا بني شكرا لله وثناء عليه فهو أحق مني وأولى به! واعلم يا فتى.. أن ما يقوم به هؤلاء .. ليس من الصيام، وإنما هو تصور فاسد لا يستقيم على منطق ولا يهتدي على حق! وإن كان ما قلته ووصفته على حق يا فتى .. معناه أن العقيدة قد ضعفت في القلوب وفسدت في النفوس، وأن الحياة.. يا بني .. أصبحت لا تسير سيرها الطبيعي، وإنها لا محالة واقعة في لون من ألوان الانحراف! ولقد خاب وخسر وجانب العدل والصواب وحاد عن الرشاد من قام بمثل هذا الاستعداد! فالاستعداد لاستقبال شهر الصيام يا بني .. هو بتطهير القلب من الآثام وتنقية البطن من أكل الحرام، فالصوم يا فتى عبادة، وليس عادة، وتغليب الروح على المادة، وتنبيه للمشاعر، ويقظة للضمائر.. ! فشهر الصيام يا بني .. شهر ماض لا يقر، متجدد لا تقف، وهو سجل لأعمال، وفيه تخليد لحسنات المحسنين، ولأعمال العاملين، فاحرص يا فتى أن يكون صيامك عبادة، وانتفع به واعمل فيه، وأن الخسران المبين شامل للعاطلين المتبطلين، فكون يا فتى .. عنوان فخر ومصباح هداية ورشاد! لذلك فإني مسوق إلى التذكير، طيلة هذا الشهر الكريم – بحقيقة الصيام- وسأستهل حديثي غدا إن شاء الله بالكلام عن "فضيلة الصيام"