وفي الوقت الذي يمكن القول أنه لاداعي لإعادة تسخين هذه الأحداث وأن أسرارها سوف تظل أسرارا وأن المسؤولين الذين أداروا الوضع والذين وجهوا لبعضهم البعض التهم بفبركة هذا التعبير الشعبي عن التذمر، رفضوا ويرفضون البوح بحقيقة ما جرى، فإن هناك ما هو أهم. ويمكن أن نراه أساسا في المحاور التالية: أولا: كيف يمكن قراءة الذي جرى بالشكل الذي جرى به؟ وهل هناك عوامل موضوعية أدت إلى هذا الشكل من التعبير عن التذمر أم أنها عوامل موضوعة وأن تلك الأحداث هي تعبير عن انسداد داخل النظام جعل طرفا يلجأ لاستخدام الشارع؟ ثانيا: هل ما أتى بعد ذلك يمكن أن يفسر الذي جرى في أكتوبر؟ ثالثا: هل أفادت أحداث أكتوبر البلاد ومؤسساتها ونخبتها؟ إن البحث في مسألة وجود عوامل موضوعية دفعت جزءا من الجزائريين للتعبير بالشكل الذي عبروا عنه هو مسألة بسيطة ومعقدة في آن واحد. بسيطة لأن الوضع الاقتصادي الاجتماعي بلغ درجة هامة من التدهور، ومعقدة لأن تقدير أن العلاقة بين قمة الهرم وبين الناس تدهورت هي الأخرى هو مسألة جدلية. وفي هذا السياق يمكن أن نرى عاملين هامين واضحين وهما: الخطاب السياسي الرسمي لم يعد يوفر عوامل تهدئة اجتماعية، إذا لم نقل أنه صار عاملا من عوامل التذمر وأن النخبة الحاكمة نفسها كانت قد دخلت في جدل داخلي منذ سنوات وأن إعادة الهيكلة لم تعط النتائج التي توختها بقدر ما زادت من نفقات الدولة وضخمتها وأدخلت المؤسسات العمومية في حلقة شيطانية للمديونية وأن تعديل الميثاق الوطني لم تصل فيه السلطة إلا لحل توفيقي غير حاسم لا في هذا الاتجاه ولا في الاتجاه الآخر. أما العامل الآخر فهو عملية توزيع الثروة التي عرفت تدهورا في مستوى العدالة وصار مطعونا فيها من قبل أطراف كثيرة في المجتمع، وذلك لسببين أساسيين: الأول هو تغيير واسع في نمط الاستهلاك وفتح أبواب تكديس الثروة والجمع بين السلطة والثروة والثاني هو عدم وجود "مسام تنفس" للمجتمع تمكن من بروز أشكال تعبير عادية عن التذمر. على ضوء هذه المعطيات، يمكن أن نرى أن مؤسسات الدولة أظهرت عجزا واضحا في التكيف وفي توفير عوامل جديدة للتهدئة، سواء تجاه الناس أو تجاه الجدل الداخلي. أما بخصوص ما إذا كان ما أتى بعد أكتوبر ما يفسره، فذلك يدفعنا للحديث عن المخارج والحلول التي تم اللجوء إليها. وهنا ينبغي التساؤل: هل كان للسلطة بدائل حلول للوضع؟ الواقع أن بدائل الحلول الممكنة عامة، وفي نظام سياسي تعرض لما تعرض له من هزة، كانت أربعة: إما بديل رجعي يستهدف إعادة الوضع لما كان عليه وكأن شيئا لم يكن أو بديل تجميلي يغير جملة من مكونات الواجهة مثل إقالة مسؤولين ورمي المسؤولية على عاتقهم وليس على النظام برمته أو بديل إصلاحي تعيد النظر في الترتيب المؤسساتي القائم ويعمل على استعادة المبادرة وعلى تحسين قدرات المبادرة عند المؤسسات. وأما البديل الرابع والأخير فكان يعني حلا ثوريا، أي سقوط النظام أو إسقاطه بشكل جذري وكلي. ومعلوم أن البديل الذي تم اعتماده هو البديل الثالث، وحتى هذا البديل رأينا بعد ذلك ما حدث وكيف انكفأت السلطة بسرعة وعادت لمركزيتها من دون أي شرعية، لا تاريخية ولا سياسية ولا حتى مشروعية قانونية. وهذه من المسائل الجدلية حتى اليوم. ومن بين المسائل الأخرى التي ظلت موضوع جدل، تأتي مسألة: هل كان من المجدي المرور إلى التعددية الحزبية؟ وهنا رأينا تيارين على الأقل داخل السلطة وأجهزتها السياسية وغير السياسية، تيار يرى أنه ينبغي البدء من "الحساسيات" داخل الحزب قبل المرور للتعددية، وتيار يرى أنه من الأفضل المرور مباشرة لنظام سياسي آخر وأن النظام السابق وصل إلى "نهاية صلاحيته" وأن العالم يتغير وأن الجزائريين ينبغي أن ينتقلوا من التحرير من الاستعمار إلى التحرر من الأحادية. المبادرة الأساسية جاءت مرة أخرى من داخل دواليب النظام ومن مجموعة من "أبناء النظام" يقودهم مولود حمروش وبدعم واضح من رئيس الجمهورية. أما بخصوص، هل أفادت أحداث أكتوبر البلاد ومؤسساتها ونخبتها؟ فتلك المسألة الأهم. ذلك أن الخروج من "نظام جبهة التحرير الوطني" إلى نظام بديل يبدو أنه لم يحدث حوله إجماع داخل السلطة وأن طرفا في السلطة تعود على راحة المركزية وسهولة اتخاذ القرار فيها وعدم الخضوع لأي مسؤولية ولأي تقييم من أي طرف خاصة من قبل المجتمع. إن "الانفتاح" و"الديمقراطية" كانت عند البعض قناعة وغاية وكانت عند البعض الآخر مجرد مخرج ظرفي متلائم مع "حمى الديمقراطية" التي سادت العالم أيامها. وفي كل الأحوال فإن "التجربة" لم تدم طويلا وحدث الذي حدث. لقد قالت بعض التحليلات أن مساحات الحرية الكبيرة التي مكن من ظهورها دستور فبراير 1989 قد دفعت بمدخلات كثيرة إلى داخل النظام ومؤسساته وأجهزته وأصابتها بما يشبه الاختناق، بينما رأت تحليلات أخرى أن الفرصة لم تترك للمؤسسات لتحسن قدرات المبادرة عندها وتحسين نوعية إدارتها للوضع المؤسساتي الجديد الذي أسس له الدستور الجديد لفبراير 1989. إن الجدل حول هل محتوى الدستور هو الذي كان المشكلة أم أنها عادات جزء مؤثر من النخبة الحاكمة هي التي تسببت في وصول الوضع لما وصل له هي من المسائل التي دار ويدور حولها جدل وهو نفسه لم يصل مستوى من النضج. على العموم، أحداث أكتوبر تمثل محطة سياسية هامة في تاريخ النظام السياسي وهي وإن لم تؤد إلى تغيير جذري في هذا النظام وفي آليات اتخاذ القرار فيه وفي النخبة المسيطرة عليه، فإنها دفعت بجملة من القضايا والإشكاليات إلى مجال الطرح والاهتمام. من ذلك مسألة الديمقراطية والحريات، وفي هذا المجال مازالت البلاد تنتظر فعلا تأسيسيا لحياة سياسية ديمقراطية ينتظم فيها الرأي العام والمصالح انتظاما سياسيا فاعلا ومنتجا لبدائل الحلول. في كل الأحوال، الواضح حتى اليوم أن مساحات الحرية التي أعطيت للمال، هي أكبر بكثير من المساحات التي توفرت للرأي والرأي الآخر. إن الأحداث مازالت في حاجة للكثير من البحث والكثير من النقاش السياسي والفكري وذلك غير ممكن بشكل منتج، إلا إذا توفرت مساحات حرية كافية، وتلك المساحات لن تتوفر إلا إذا كان النظام يملك قدرات على مقارعة الحجج السياسية الفكرية بالحجج السياسية الفكرية، من دون ذلك، تظل الأحداث أحداثا تراق فيها دماء الجزائريين بين الفينة والأخرى، تحت هذا المبرر أو ذاك، ثم تمضي من دون أي فائدة.