يتجدد ألم الجزائريين مع عودة كل تاريخ ُيذكّرهم بحالة الارتباط القسري بالاحتلال الفرنسي، ولم يستطيعوا التخلص من ذلك رغم المساعي التي بذلها بعض السياسيين ومعهم جمعيات من المجتمع المدني العاملة على ضفتي المتوسط على مدى قرابة نصف قرن من استعادة الجزائر استقلالها، نظرا للتعنت الذي ظلت تبديه الإدارة الفرنسية المتداولة على حكم قصر الإليزيه من جهة، والضعف الذي اتسمت به مطالب الجزائريين في اعتذار فرنسا الرسمية عما فعلته فرنسا الاستدمارية من جهة أخرى . غدا تستعيد الجالية الجزائرية ومعها كل الأحرار في الجزائر كما في فرنسا، ذكرى ما أصبح ُيعرَف في القاموس السياسي بيوم الهجرة، يوم خرج أبناء الشعب الجزائري المهاجرون والمهجَّرون في مثل ذلك اليوم من عام 1961 في مظاهرة سلمية ليؤكدوا من خلالها ارتباطهم العضوي بشعبهم المكافح والتزامهم بإستراتيجية جبهة التحرير الوطني القائدة الوحيدة لكفاح الشعب من أجل استعادة دولته التي غيّبها الاحتلال، غير أن البوليس الفرنسي تصدى للمسالمين بقمع وحشي أثار حتى المحايدين في المسألة الجزائرية، حيث ُقتل البعض وُرمي البعض الآخر في نهر السين واعتُقل المئات وعُذب العشرات ممن بقوا أدلة إثبات على همجية فرنسا الاستعمارية، يدلون مع حلول كل ذكرى بشهاداتهم حول المجازر البشعة التي ارتكبتها قوات البوليس الفرنسي كجزء من سياسة الدولة الفرنسية في ذلك الوقت تجاه الجزائريين المطالبين بحقهم . انضمت عدة منظمات فرنسية غير حكومية لنداء الضمير الذي أطلقه كثير من الأحرار الفرنسيين سواء العاملين منهم في الحقل العلمي أو ممن شاركوا فيما تسميه فرنسا حرب الجزائر واستيقظ ضميرهم على هول ما ُحفر في الذاكرة، إلى المنادين بضرورة اعتراف فرنسا بجرائمها في الجزائر ومنها جريمة 17 أكتوبر1961 ، ودعت السلطات المحلية الفرنسية إلى إطلاق تسمية الحدث على بعض الطرق والساحات العامة الفرنسية في نفس الوقت الذي التزمت فيه الوقوف غدا إجلالا أمام جسر سان ميشال الذي لا زال يذكر من أُسقطوا في النهر مقيدي الأيدي والأرجل أو ُقتلوا على أرضيته في ذلك اليوم المشؤوم قبل تسعة وأربعين عاما مضت . ظلت الحكومات الفرنسية المتعاقبة تتنكر للحق الجزائري في الاعتراف بالجرم المشهود الذي اقترفته الجيوش الفرنسية أثناء حقبة الاحتلال كلها، وخاصة ما جرى أثناء الثورة الجزائرية، وقد يكون من الغرابة أن يكون الرئيس ساركوزي المثير للجدل والفتنة السياسية والذي وصف الاحتلال بالمظلمة الكبيرة في حق الشعوب، هو نفسه من سنّ قانون تمجيد "الاستعمار" في كل البلدان التي كانت تحت حكم الأجنبي وبالأخص في الجزائر، وهو ما سمي بقانون العار الذي ما زال ساري المفعول منذ23 فيفري 2005، ويجد تطبيقه في الصمت المطبق الذي تبديه إدارته أمام مئات النداءات الداعية إلى إحقاق الحق والاعتراف بالجرم وتقديم الاعتذار للجزائريين كما فعل الإيطاليون مع الليبيين، كي تستقيم علاقات البلدين وتزول أسباب التوتر النائمة مرة والمستيقظة مرات والتي تفرضها مبررات التاريخ، ولكن هل كان للحكومة الفرنسية أن تتطاول على الشعب الجزائري بالتنكر المستمر لهذا المطلب القانوني والمنطقي والمصلحي لولا ضعف الموقف الرسمي الجزائري وعدم جديته وميوعته في بعض الأحيان ؟ إن استنكار الجمعية الفرنسية المسماة 93 في قلب الجمهورية هو مهماز تغرزه في المتقاعسين منا في حق الجزائريين الثابت من فرنسا، وهي عندما تؤكد أن عدد المائتي شخص الذي أعلنته السلطات الفرنسية يومئذ كحد أقصى للقتلى هو أقل بكثير من العدد الحقيقي للمغتالين من السالمين في مظاهرة السلام، وتصر على حق شهداء 17/10/61 المطلق في التاريخ وألا يظلوا ضحايا النسيان السياسي للسلطات التي ورثت الملف، فإنه حري بالجزائر- سلطات وجمعيات ومراكز وجامعات- أن تتحرك في الاتجاه الصحيح من أجل تحرير التاريخ، وبالقوة المناسبة لقوة الرفض كي تعيد لشهدائنا حقهم بتسليط الأضواء على جريمة الدولة التي ارتُكبت في حقهم، ومن ثم تبدأ طريقها المؤدي إلى إرغام السلطات الفرنسية القائمة على الاعتراف بإرهاب فرنسا الاستدمارية وتقديم ما يجب أن ُيقدَّم من اعتذار وتوابعه . ليست الذكرى التاسعة والأربعون لأحداث 17/10 إلا مناسبة أخرى للجزائريين كي لا يفرط جيلهم الحاكم اليوم في حق جيل الشهداء وجيل الغد معا، فالتفريط من شأنه أن يعرض الإرث الذي وصلنا من أجيال الكفاح الماضية إلى الانتكاسة والتشتت وضياع القيم التي تحمي جغرافية سقط عليها أكثر من مليون ونصف المليون من الشهداء في أقل من ثماني سنوات فقط، وإن المطالبة الرسمية الجادة والمبنية على أسس عملية ، هي مطلب شعبي دائم الحضور يتجدد مع عودة كل تاريخ من تواريخ الثورة، ولن يسقط بالتقادم مهما راهن على ذلك المراهنون، وقد يصبح دليلا على وطنية هذه النخبة السياسية أو تلك، ممن تحكم أو تسعى إلى حكم الجزائريين خاصة بعد التراجع الفاضح والمؤلم عن أهداف بيان أول نوفمبر، ابتداء من تعويم مفهوم الدولة الديمقراطية الاجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية، إلى تحويل اللغة الفرنسية غنيمة الحرب لدى البعض إلى لغة رسمية في التعامل ووطنية في الواقع برغم وضوح الدستور وشفافية قوانين الجمهورية في هذا المجال ورغبة الأمة المعبَّر عنها في كل المواعيد الصادقة ...