أنهى العالم عرسه الذي أقامه في نصف يوم، لمن تمثل نصف المجتمع أو يزيد قليلا، وعاد المبتسمون إلى عبوسهم القديم، في وجوه الفرحات بهذا العيد، الذي يتكرّر فيه التدليس كل عام، دون أن تنتفضن لتصحيح الرؤية، وتجنيد الجميع، من أجل حماية هذا العالم، من عبث السفهاء الذين أشعل البعض منهم في جوانبه النار ... عاد الحديث عن المرأة مع عودة الثامن مارس، ورجع السياسيون إلى موعدهم السنوي يستثمرون في هذا المخلوق، من أجل الظهور بمظهر من خرج من التخلف من بوابة النساء، ويبدو أن الرجل قد »اغتصب« الدهاء والإغراء والمسكنة من المرأة، وأعاد صياغتها في شكل فخ ما زال يسقطها فيه كل عام في نفس التاريخ، وربما في الأمكنة نفسها، ومرة أخرى تنطلي الحيلة على صاحبة الحيل، وتسكر في نصف يوم، تحت وقع المدائح المزيّفة والوعود الكاذبة، التي يطلقها ممثلون بارعون في فنّ التدليس والتضليل ونصْب الشباك، ما كان لهم أن ينجحوا لولا تواطؤ بعض النسوة، ممن نزعن أنوثتهن، وفرّطن في المطالب الحقيقية للمرأة، وخلعن ثوب القيّم التي تميّزها عن غيرها من نساء العالم، وتنخدع »سيدتنا« بورد أكثره بلاستيكي ملوَّث وملوّث، وتكتفي بتقدير نصف يوم، وهي التي تحتل كل فصول السنة. النساء يفوق عددهن عدد الرجال في الجزائر حسب إحصائيات غير رسمية، فهن إذن أكثر من نصف المجتمع الجزائري الحي والخامل، وأينما وليت وجهك فثمة نساء، حيث دخلت تاء التأنيث إلى جميع الثغور، فالجامعة الجزائرية بمختلف كلياتها ومعاهدها ومدارسها نجد أن أكثر من ثمانين بالمائة من روادها هم من الطالبات سيدات الغد اللواتي سيلجن إلى كل الوظائف والمناصب والأعمال التي تدير عجلة الحياة في الجزائر، بينما تجاوزت نسبة وجودهن في بعض المؤسسات أكثر من سبعين بالمائة، غير أنه في الهيئات النقابية والحزبية لا يزال حضورهن محتشما إن لم يكن معدوما، ولولا الخشية من ملاحقة هذه الهيئة أو تلك بتهمة »الرّجعية« لانعدمت المرأة من هياكلها تماما، مما يطرح سؤالا كبيرا أزّمت الإجابة عنه الواقع السياسي بوجه خاص، وجعلت المؤسسة السياسية الرسمية تدعو- فيما يشبه التعليمة- إلى استحداث مناصب للمرأة في"الجمعيات الحزبية"ولو عن طريق المحاصصة أو الكوطة التي يعتبرها البعض مساسا بكرامتها أكثر منها نوعا من الترقية خارج تعنّت هواة السياسة. لقد دخلت المرأة الحياة بقوّة من جميع أبوابها، وانتشرت في مختلف المرافق والقطاعات والهيئات دون منّة من أحد، ومن غير أن يعترض طريقها أحد، أو يضع في وجهها الحواجز مهما كان نوعها، بل انغمست فيها إلى درجة أنها أثرت القاموس السوقي بمصطلحات تتنافي وأنوثتها، وكما استطاعت أن تفتك رتبة جنرال في المؤسسة الوطنية الأكثر انضباطا واحترافية واحتراما من طرف المجتمع، ولا يوجد تخصّص إلا ودخلته مهما كان دقيقا أو حساسا، فإنها انزلقت إلى مسالك الجريمة لتضع بصمتها كرئيسة عصابة في شبكة الإجرام، ولكنها لم تستطع فتح باب السياسة المقفل بإحكام، ليس لغبن ألحقه بها المجتمع، أو تحريض منه ضدها، إنما لعدم استقامة الممارسة الحزبية أصلا، بفعل هشاشة المجتمع السياسي، وهو ما نلاحظه في الإقصاءات المخزية للكفاءات الملتزمة في كل المواعيد الانتخابية، بالرغم من أن أولئك المقصيين، يحملون- صادقين- شعار نكران الذات قولا وفعلا، من أجل برنامج بديل لما هو سائد متعثر، بغض النظر عن جنس الكفاءة، وهو ما تؤكده التوترات والانشقاقات ومحاولات الانفجار التي تتعرض لها كل الأحزاب العاملة إلى حد الآن. إن نظرة موضوعية- وقريبة من الدّقّة- للهياكل النقابية والنيابية تؤكد أن المرأة والكفاءة هما الغائبان الدائمان، وإن ظهر غياب المرأة أكثر، وأن نسبة الوجود النسوي الضئيلة في البرلمان والتي لا تتجاوز السبعة في المائة، إنما هي نتيجة هذا الإقصاء المزدوج بالدرجة الأولى، وقد يحدث بالكوطة التي تطالب بها بعض النساء- والتي أعتبرها شخصيا سبّة في حق المرأة لأنها تهينها وتحشرها في زاوية القصور- ما حدث »لتخييط« أحزاب الأمر الواقع، لكل الانتخابات التي شهدتها الحياة السياسية مما تحدثنا عنه، والتي زادت في قطيعة هذه الأحزاب مع مناضليها من جهة، ومع بقية المواطنين من جهة أخرى، لما أفرزته من تمثيل مزيّف للمواطن على أي مستوى انتخابي كان، وقد تجلى ذلك في التنكر لمطالبه المشروعة والابتعاد عن همومه الحقيقية، وقد تختطف الكوطة مَن ُهنّ مندسّات وسط النساء، وليس لهن علاقة بالمرأة إلا من حيث هي استثمار مشبوه يسيء إليها، ويزيد في تعويم الطرح الخاص بحقوقها، وليس أدل على ذلك مما قالته رئيسة المرصد الجزائري لحقوق المرأة، من أن نصف الجمعيات النسوية بالجزائر هي خطر على المرأة. يطرح اللاعبون في الأوقات المستقطعة من حياة المرأة، المسألة وكأن ما يعتمل داخل المجتمع، إنما هو صراع بين الرجل والمرأة، يتجدد مع تطوّر هذا المجتمع، مع أن الحقيقة التي يقرّ بها كل العقلاء والعاقلات، هي أن الإنسان الجزائري بنسائه ورجاله، يعاني من مصاعب متداخلة معقّدة تحدّ من تقدّمه، ذلك أن ما ظهر في مجتمع ما بعد استرجاع الاستقلال هو مجموعة كبيرة من »الزوائد الدودية« الاجتماعية والثقافية وحتى الاقتصادية، التي تزداد خطورة مع تعميم الرداءة على معظم الأداءات، وتحييد الكفاءات والقدرات، التي بإمكانها أن تصحّح مسار البوصلة، ويكون الذين يسعون إلى إرضاء الغرب- من خلال إحياء هذا اليوم- قد فرحوا بشهادة مؤسسة فريدوم هاوس الأمريكية، التي قالت إن الجزائر من أوائل الدول التي حققت تقدما معتبرا في مجال حقوق المرأة، وإن كان البعض تطوّع فقدّم وصفة غير صحيحة، لصراع المجتمع مع التخلف، مما دفع طائفة إلى الرحيل عن زمانها والإقامة على أطلال فكر مهجور، وأن تركب طائفة أخرى أفكار غيرها فتجمح بها وتقيم خارج محيطها، وظلت هاتان الطائفتان تشدان المجتمع من أطرافه- والمرأة إحدى أساساته- إلى حد إحداث تصدعات كبيرة في نسيجه الاجتماعي والثقافي والقيمي، ولذلك فإنه لا يسعني إلا أن أردّد الكلام الذي مازلت أومن به، وقلته في أكثر من مرة، وفي مثل هذه المناسبة، من أن المسألة في مجملها وفي تفاصيلها كذلك، هي مسألة تحرير المجتمع بنسائه ورجاله من التخلف الذي ورّثته له إدارة الاحتلال المرحّلة، وبعض سوء الأداء السياسي الذي جاء بعدها وعندما تمسح الهبّة المشتركة للمواطنين- بذكراتهم وإناثهم- جيوب التخلف المقيم بيننا، فقد تصل تلقائيا واحدة من أصيلات الجزائر إلى رئاسة الجمهورية، أو الوزارة الأولى، وقبل ذلك نقول إنه إذا ما انتهى العرس الذي أقيم للمرأة اليوم، فإنها مطالبة قبل غيرها بأن ُتبقي الأفراح قائمة طوال العام، في جزائر يبنيها الرجال والنساء، ويقودونها معا وعلى جميع المستويات، إلى الأمام ...