يقف على نفس المسافة بين المهادنة والصدام مع السلطة كأنه يمسك العصا من الوسط ولا يفعل في نفس الوقت، يرى نفسه ملتزما بقضايا الإنسان أكثر من شيء أخر، يقول أن المثقف سيفقد صوته الثقافي إن هو هادن السلطة، وستصبح كتاباته مجرد نصًوصا عرجاء لا تفضي إلى شيء.. جلال برجس الشاعر والروائي الأردني في حوار حصري مع السياسي يكشف عن رؤيته للعديد من القضايا من خلال الكتابة، في الشعر والقصة والرواية، هذه الأخيرة يعتبرها أخطر أشكال السرد ، لأنها معنية بهتك ستائر الظلمة لا الحديث فقط عن الشمس، وهذا ما حاول أن يجسده شكلا ومضمونا في روايتيه الاخيريتن (أفاعي النار) و (سيدات الحواس الخمس)، موضحا أن ما حدث في العالم العربي بحاجة لآلاف الكتب لمعاينته ومحاولة فهمه. ولأنه مثقف، فقلمه زئبقي يتمدد نحو الإنسان تلقائيا، من خلال الشعر والقصة، ويثبت في المكان ليسبر أغواره من خلال الرواية، يقول انه لا يمتلك طقوسا بالشكل المتعارف عليه في الكتابة، فكل ما يعرفه أن هنالك لحظة لها سمات معينة تجعله يترك كل شيء ويكتب نصوصه منفصلًا عن كل من حوله !.
أخطر أشكال السرد صرحت عام 2013 في صفحتك على (فيس بوك) أنك فقدت مخطوط روايتك سيدات الحواس الخمس نتيجة لخلل فني في الحاسوب، وها أنت تصدرها في أواخر 2018، هل تبدل شيء على ما كتبت من قبل؟ بالفعل فقدت الرواية بسبب خلل مفاجئ في حاسوبي الشخصي، ومنيت بحالة كبيرة من الضيق أمام عمل روائي عشت مع شخصياته، وأمكنته أكثر من عامين ونصف. وحينما جلست إلى طاولتي لأعيد كتابة الرواية؛ وجدتُني غير قادر على ذلك، كأنني لست من كتبها. لقد كانت حالة تامة من العجز. لكن لقائي في مدينتي (مادبا) بذلك الرجل المشوه جسده جراء تعرضه لحادثة حريق، أخذني إلى كتابة رواية عن روائي فقد روايته، كنت أعتقد أنني سأكتب من وحي روايتي المفقودة لكنني اكتشفت أني أكتب رواية أخرى ( أفاعي النار/حكاية العاشق علي بن محمود القصاد) التي نالت جائزة كتارا للرواية العربية 2015. وما أن مر زمن على صدور (أفاعي النار) حتى أخذت (سيدات الحواس الخمس) تراودني من جديد. وحين أتممت كتابتها وجدت أنني كتبتها بوعي آخر، وأن النسخة التي أنجزتها هي النسخة الصالحة للوصول إلى القارئ وهذه كانت إحدى الدلالات، والدروس على ضرورة التأني في الكتابة الروائية أخطر أشكال السرد برأيي الخاص. كثيرًا ما يتعرض الروائي من قبل القارئ لسؤال حول علاقة الروائي بما كتب، هل في سيدات الحواس الخمس روايتك الأخيرة تجربة شخصية؟ رغم أن كل ما نكتبه هو نتاج مشاهداتنا، وتأملاتنا منذ لحظة الولادة؛ أي بمعنى هو الرؤية التي تبلورت عبر كل تلك السنين التي أهلتنا للكتابة إلا أن سيدات الحواس الخمس ليست تجربة شخصية بالمعنى السِّير ذاتي، ولا حتى وقع جزء كبير من أحداثها في أزمنة وأمكنة الرواية، بل إنها نتاج ما شكل رؤيتي حول ما آلت إليه عمّان التي تعاطيت معها روائيًا لتكون معادلًا رمزيًا للمدن العربية التي باتت ترزح تحت نتاج المتغيرات العالمية الجديدة. ولم أرهن الرواية كاملة للواقع، بل ذهبت فيها إلى هذا الواقع عبر الخيال، وشيء من الفانتازيا ليتسنى لي تقديم صورة عما أراه للقارئ. ما كتبته ليس انقلابًا على الحال بقدر ما هي هز ذلك الحال بقوة حتى تسقط الثمار المتعفنة، وتتعافى الشجرة. وما كان ذلك ليحدث لولا أن الرواية- أية رواية- تضطلع بمهمة طرح الأسئلة أمام ما يحدث، ليتساءل المتلقي، ويخلق إجاباته، إجابات الحياة على أسئلتها.
قلت في أحد تصريحاتك أن الرواية ليست محل ترف لا من حيث الكتابة، ولا من حيث القراءة هل ترغب في القول بأن الرواية تكتب لذاتها فقط أم تقصد شيئا أخر بهذه العبارة ؟ قلت ذلك لأني لمست مؤخرًا استسهالًا خطيرًا في كتابة الرواية؛ إذ اعتقد البعض أنه السرد الحر، والتوليف بين الخواطر يمكن أن يصنف ضمن الأعمال الروائية. الرواية إعادة بناء للحياة نحو حياة جديدة، فكيف للبنَّاء أن يشيد بيتًا من دون ثوابت معمارية قوية؛ له الحرية المطلقة في الشكل لكنه لن ينجح إذا ما انطلق هذا الشكل الجديد دون أسس سليمة، وهذا لمسته أيضًا فيما يخص بعض قراء الرواية الذي فهموا ما يقرأون على أنه ترف يفضي إلى المتعة فقط. الرواية معنية بهتك ستائر الظلمة لا الحديث فقط عن الشمس. جلال برجس، شاعر وروائي وقاص أردني كتب في الشعر والقصة وأخيراً توجه إلى الرواية، لماذا هذه التوليفة المتعددة من الأجناس الإبداعية التي اعتمدتها؟، هل كانت القصيدة ضيقة كثيرا عنك ولم تستطع أن تعبر عن كل مكنوناتك، لذلك اتجهت إلى السرد، بالرغم أنها هي التي كانت فاتحة شهيتك الإبداعية؟ في البدء علي التوضيح أنني لم أتوقف عن كتابة الشعر ، أما ما رأيتَه توليفه فهو مضي من قبلي نحو الرواية عبر مراحل، فكتابة الشعر أفضت بي إلى كتابة النص المكاني، ومن ثم القصة، وحينما كتبت (مقصلة الحالم) أول رواياتي كنت أعي أنني قادر على فعل ذلك رغم تشبث أدوات الشعر بقلمي الروائي، لكن أعمالي الروائية اللاحقة أخذت من تجاربي الكتابية السابقة ما ينفع الرواية ورؤيتها، وتركت على سبيل المثال لغة الشعر للشعر. الشعر معاينة للعالم عبر الذات أين يجد جلال نفسه، أكثر في فضاء الشعر أم في فضاء السرد، خاصة وان كل منهما مختلفان من حيث البناء الشكلي وحتى اللغة المستعملة، وحتى بالنسبة القارئ المتذوق لهذين الجنسين الأدبيين ؟ أجد نفسي في الرواية، وأجدها في الشعر، فقد قلت سابقًا أن الشعر معاينة للعالم عبر الذات، وأما الرواية فهي معاينة للذات عبر العالم، فلا يمكنني أن أتوقف عن هاتين المعاينتين. يقال أن الروائيين هم المرآة الحقيقية لمجتمعاتهم ، لأنهم ينقلون الحياة العميقة للإنسان فيها عبر أعمالهم، هل يرى جلال برجس نفسه، معني بهذا الوصف في التعبير عن الفضاء الأردني الحياتي، وتجلياته في مخيلة القارئ سواء العربي أو الأجنبي بصفة عامة من خلال أعماله؟ الإنسان بالطبع هو ابن بيئته لهذا لا يمكن أن تنفصل كتابتي عما هو حولي لكن أي شكل ومضمون من هذه الكتابة مضيت فيه. أؤمن أن على الروائي أن لا يكون مجرد آلة تصوير تنقل ما يرى، بل عليه أن يعيد صياغة ما يرى وفق رؤيته التي بالضرورة تشكلها ثقافته ووعيه التأملي وموقفه. علينا أن ننقذ الواقع ببعض أدوات الواقع حتى لا نكون راديكاليين ننسف كل شيء. إضافة إلى حصولك على جائزتين أردنيتين في الرواية، فزت قبل ثلاث سنوات بجائزة كتارا، عن روايتك أفاعي النار ، لن أسألك حول مدى تأثير الجائزة في مسارك الأدبي بعد الفوز، لكن أرغب بطرح السؤال بشكل مغاير خاصة مع انتشار مفهوم ما يسمى بأدب الجوائز كيف يرى الروائي نفسه قبل الجائزة وبعدها؟ بموضوعية تامة أقول أن أكثر ما يجنيه المبدع من وراء الجوائز هو ذلك الضوء الذي يسلط عليه فيقرأه الناس. هنالك كثير من الروايات في غاية الأهمية والعمق لم تجد طريقها إلى القارئ. الجائزة بالطبع لا تصنع إبداعًا ولكنها تحفز البعض على الكتابة، فمن كان يقول أن الروائي سيصبح في الصدارة لولا عدد من الجوائز التي قدمته للقارئ. إذا تحدثنا عن طقوسك في الكتابة، في نظري يجب أن نمر على ثلاث مستويات تقريبا، لأنك تكتب في الشعر وفي القصة و الرواية، هل هناك ظروف تصطنعها لنفسك عندما تقوم بهذه العملية الإبداعية، الثلاثية الأبعاد إن صح التعبير ؟ ليس لي طقوس معينة في الكتابة، كل ما أعرفه أن هنالك لحظة لها سمات معينة تجعلني أترك كل شيء وأكتب منفصلًا عن كل ما حولي. لكن لي عادة لا أفهمها أمارسها أثناء الكتابة ألا وهي شرب الماء بكثرة. عادة ما يتم اتهام المجتمعات العربية بأنها مجتمعات خاملة لا تقرأ، لكن ما نلاحظه على مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرا، هو وجود موجة قادمة من القاع تحتفي بالأدب، الرواية وبالكتاب بشكل عام، كيف تعلق على هذه الظاهرة التي يطلق عليها البعض الأدب الفايسبوكي الذي يراه البعض أنه سينعش فن اليوميات والسير ؟ قلت في أكثر من حوار إعلامي أنني لا أؤمن بتلك الإحصائيات التي باتت تظهر مؤخرًا وتشير إلى تدني نسبة القراءة عربيًا مغفلين أن ثورة الاتصالات أظهرت - ولا أقول صنعت- طيفًا واسعًا من القراء الذي يسعون إلى الكتب بمستوى جيد. أما فيما يخص ما يسميه البعض (أدب الفيس بوك) أرى أن هنالك كثير - وليس كل- مما يكتب في الفيس بوك رغم جماله لا يمكن أن يصنف أدبًا، ولا يمكن أن يحفظ في ذاكرة المكتبة العربية، لأنه مجرد محاولة لكتابة لُغوية لا تؤدي إلى شيء. في المقابل هنالك عدد اتخذ الفيس بوك كمنصة للكتابة ونجح في ذلك لأن مساعيه مدعومة بقراءة عميقة، وتأمل جاد خارج الفضاء الافتراضي. الفضاء العربي اليوم يعيش حالة من التياهان على جميع المستويات، ضمن ما يسمى بثورات الربيع العربي . الأكيد ان هذه اللحظات الدراماتيكية واقعيا تشكل بالنسبة للمثقف والروائي بشكل خاص، منطلقا لأعمال إبداعية يجسده فيها نظرته لهذه الوقائع، كيف جسد جلال برجس هذه اللحظات في أعماله سواء الروائية أو الشعرية ؟ بالتأكيد أن ما يحدث حولنا سيؤدي إلى شكل ومضمون جديدين في الكتابة وهذا ما حاولته في (أفاعي النار) و (سيدات الحواس الخمس) آخر عملين روائيين لي، فما حدث في العالم العربي بحاجة لآلاف الكتب لمعاينته وفهمه. على المثقف ان يلتزم بقضايا الإنسان (المثقف - السلطة)، يعتبر من أكثر المصطلحات جدلية وتداولية على الساحة الثقافية العربية، سواء قديما أو حديثا، كيف يرى جلال برجس نفسه كمثقف في علاقته مع السلطة، هل هي علاقة صدامية مثلما يعيشها العديد من المثقفين العرب؟، أم أنها علاقة مهادنة ؟ سيفقد المثقف صوته الثقافي إن هادن السلطة، ويصبح ما كتبه نصًا أعرج لا يؤدي إلى شيء. لست مهادنًا ولست صِداميًا. أقول ما على المثقف الملتزم بقضايا الإنسان قوله.