تراجعت القصة القصيرة في الجزائر في السنوات الأخيرة مع هوس كتابة الرواية، حيث صار كتابها قلة أو على الأقل لا يحضون بنفس الحضور الإعلامي والجماهيري وحتى النقدي الذي يلقاه كتاب الرواية. لماذا تراجعت القصة القصيرة في الجزائر؟ لماذا هي جنس أدبي ملعون؟ في هذا الملف مجموعة من الكتاب يتحدثون عن تجربتهم في هذا النوع الأدبي. نوال جبلي: القصة لن تموت حول تجربتي كقاصة انتقلت إلى كتابة الرواية، أسمحي لي أن أوضح لك شيئاً مهماً هو أنني في الحقيقة لست قاصة انتقلت للرواية، فحين أستبعد الحديث عن الشعر الذي كان أول تجربة اقترفتها يدايْ وأنا في سن الثالثة عشر من عمري أقول أن تجربتي في السرد بدأت بالرواية والقصة معاً وأنا أحدثك هنا عن كتاباتي الأولى غير المنشورة، فقد حدث أنني بدأت بكتابة رواية فطولية الملامح والأجواء وفي ذات الوقت كنت أكتب قصصا قصيرة، أما من حيث النشر فصحيح أنني عام 2001 نشرت مجموعة قصصية معنونة ب *الخريف امرأة* لكنها لم تكن مجموعتي الوحيدة بل كتبت بعدها قصصا قصيرة لم أنشرها بعد، نُشر منها قصتان فقط إحداهما هي *الدهاليز الرمادية* الحائزة على الجائزة الكبرى على مستوى دول البحر الأبيض المتوسط والثانية *الصراخ في قلب العتمة* التي نُشرت في انطولوجيا القصة التي جمعتها الأديبة القديرة الأستاذة جميلة زنير، ومع صدور روايتي *فانتازيا على فخذ الشيطان* حديثاً لم أكف عن كتابة القصة بعدها فأنا حين أكتب لا أتعمد كتابة صنف بعينه بل أبدأ بتدوين ذاك السيل الغامض الذي ينهال على فكري وأنا أجهل أهو قصة أو رواية أو حتى قصيدة في بعض الأحيان كما سبق وأن حدث معي مع أن ملامح الشعر تكون واضحة بالعادة وقلما استطعت تحديد الأمر.. وعن سؤالك لماذا القصة صنف أدبي غير مطروق كثيرا في الجزائر أقول أنه لازال هناك كتاب يكتبون القصة وهذا أمر مطمئن بالنسبة لي فهذا يعني أن الإبداع لايزال بخير.. فحين يروج صنف أدبي معين ويتحول إليه الكتاب لهدف الرواج لاغير أرى أن الإبداع هنا لا يصير هو الهاجس الأول للكاتب بل الشهرة في حد ذاتها والرواج وهذا هو جوابي عن سؤالك: لماذا في رأيك يهجر القصاصون القصة لصالح الرواية؟ هم يهجرونها في الأغلب لأجل الرواج مع أن المبدع الحقيقي لا يهجر صنفاْ كتابيا لصالح صنف آخر رائج بل يتبع بوصلة أعماقه تقوده حيث شاء الإبداع، من جهتي أحترم كثيرا أولئك الذين لازالوا يكتبون الشعر ويتمسكون به كأنه الخلاص رغم أن أبواقاً كثيرة لطالما أعلنت: (انتهى عصر الشعر..) وهكذا هو الحال بالنسبة للقصة، يوجد كتاب كبار جد ناجحين برواياتهم (وأعمالهم كافة) ومع هذا لازالوا يصدرون مجموعات قصصية ودواوين شعرية شأنهم شأن جميع عشاق الأبجدية دونما تصنيف فليس الرواج هو الذي سيحدد نجاح الكاتب بل الزمن وحده، كما أن جمهور القصة سيبقى موجودا في كل عصر وقراء الشعر أيضا وجميع أصناف الكتابة برأيي لديها قراؤها.
حكيمة صبايحي: القصة لم تعد تسع هموم العصر للتذكير ليس لي إلا مجموعة قصصية واحدة، عنوانها: "رسائل"، صدرت عن رابطة كتاب الاختلاف عام 2000. وحاولتٌ كتابة الرواية ولكنني فشلتُ. فلم أعد إلى كتابة القصة إنما شعرتُ أن الشعر هو ما يمكنني كتابته بعد قطيعة طويلة، وقد يرى النور قريبا كتاب في الشعر عنوانه: تسريبات من الأعماق. الذي أريد التأكيد عليه أيضا، أن اختيار الجنس الأدبي، ليس رهن الإرادة . الكتابة قرارُ يتخذنا جميعا و لسنا من نتخذه و الفرق بين نص و آخر، ربما، هو الفرق بين نص نذهب إليه و نص يأتي إلينا. بالنسبة للقصة القصيرة في السرد العربي المعاصر، شأنها شأن القصيدة الموزونة لم تعد تفي بالغرض، لم تعد تستجيب لذائقة تحولت في الواقع، و تبعتها أو واكبتها تحولات على مستوى المنجز النصي. القصة القصيرة في بدايات الكاتب، خطوة طبيعية، لموهبة تبحث عن شكل تتجسد فيه، و القصة القصيرة هي الشكل الملائم لنظرة بصدد التكوين، إذا انطلقنا من تعريف القصة: أنها نص نثري يحتوي على حكاية، تعبر عن وجهة نظر خاصة لقضية ما. مع الوقت،،، القصة كحجم لم تعد تستوعب العالم المعقد،،، الذي لا يستقيم معناه إلا في تعالقه مع الجميع و لأبعاد والجهات. هكذا كتب السعيد بوطاجين مثلا القصة القصيرة، ثم اتجه إلى الرواية، هكذا كتب مفتي بشير مثلا القصة ثم اتجه للرواية، وعربيا أيضا: هكذا كتبت غادة السمان القصة ثم اتجهت إلى الرواية، و هكذا كتبت هيفاء بيطار القصة ثم اتجهت إلى الرواية... الرواية هي كتاب العصر هنا وهناك، و تراجع الشعر عند العرب تبعا لتحولات في الوعي الاجتماعي للشعوب العربية،، لا شيء موزون إلا الانهزام، لذلك انتثر الشعر في نص أقرب إلى السرد منه إلى الشعر، والأمر ذاته يخص الرواية التي صارت: تاريخا غير مرسم، لكنه التاريخ الذي أغفله التاريخ في علم التاريخ. شخصيا، أجد أن إيقاع التغيرات التي اتسم بها عصرنا، هو الذي جعل الرواية مطلبا كتابيا عند الكتاب في العالم.. كأن كل رواية هي سيرة مختصرة لنسخة بصدد الانتهاء للحكاية البشرية على الأرض. و أكاد أتنبأ بموت القصة القصيرة... التي لا تتسع لتفاصيل كثيرة، معقدة وغير قبل للمحو و الحذف، إذا تم السكوت عنها، انفقد عقد المعنى و المغزى، ما أكثر الروايات... ما أقل نصيب الأدب فيها... الكثرة علامة جيدة على الاجتهاد والمحاولة المستمرة، لتحقيق نص جيد، والقلة هي حظ كل كتابة من الإبداع.. وهي ليست رهن الاستدعاء. إنها رهن الحاجة للحياة بحرية والكتابة كذلك وبعمق. ولا يمكن مغادرة الكلام دون التأكيد: الرواية، أليست هي أرض الإنسان التي لم يصلها الأمن الإرهابي بمختلف البزات والألوان والأناشيد الدينية والعاطفية والوطنية؟
نسيمة بولوفة: كاتب القصة في الجزائر ينظر إليه بدونية للأسف في وطننا يتم استسهال و استصغار من يكتب القصة القصيرة، ينظر إليه على أنه صاحب النفس القصير، ننعته بمجرد قاص، غير أن القصة مهمة لها تقنيتها ليس سهلا أن تقول ما لديك في أقصر الجمل، و أكثرها تركيزا. في فترة من الفترات أصبت بالاكتئاب الشديد و الحاد، أحسست انه لا جدوى من كتاباتي، وأني مجرد نسمة في مهب الريح و الأعاصير العاتية، ثم جاءتني هدية من السماء تحصلت على جائزة علي معاشي في الرواية و فزت بالمرتبة الأولى، سألت حينها السيدة جميلة زنير وهي عميدة القصة في الجزائر وعضوة في لجنة التحكيم، قالت لي أردنا من خلالك و خلال بقية الفائزين رد الاعتبار للقصة، قد يكتب المرء صفحة وتكون أروع و أبدع من شخص يكتب مئات الصفحات، لماذا انتقلت لكتابة الرواية؟ لا أعرف ككاتبة أحب التجريب و التغيير، أكتب الرواية البوليسية كما قد أكتب للأطفال، كما لي محاولات في كتابة مسرح الطفل، أي نوع يليق بي؟ لا أدري، قطعا أترك الحكم للقارئ، هو القادر أن يصنفنا حسب مزاج ميولاته في القراءة، مع ذلك لا أزال وفية للقصة، عدت و كتبت مجموعة قصصية تخص القصة الومضة "حين تضحك" استمتعت كثيرا بكتابتها، و دون شك هذا هو سرنا الكبير نحن الكتاب، تمنحنا الكتابة المتعة القصوى فهي تمنحنا الأجنحة التي من خلالها نحلق عاليا في الفضاء الفسيح.
فايزة مصطفى: الشهرة وراء هجرة الكتاب نحوى الرواية قال الصديق القاص الخير شوار مرة أن كاتب القصة هو كاتب سيء الحظ، وأنا أوافقه تماما فالقاص في الجزائر لا يظفر بالاحتفاء والحضور والإقبال على أعماله الإبداعية كما يحظى غيره من الشعراء والروائيين، حيث تخصص لهم أمسيات شعرية، وندوات وملتقيات أدبية وطنية ودولية، تسلط الضوء على تجاربهم وتتاح لهم الفرصة لقراءة نصوصهم ولقاء جمهورهم، أما القاص فيبدو كاتبا هامشيا في زمن الرواية، وأقل حضورا من الشاعر حتى وإن اعتبر النقاد أن زمن الشعر قد ولى، لكن يبقى لهذا الجنس الأدبي مكانته وقوته داخل المشهد الثقافي الجزائري. و في خضم الضياع، يختار العديد من كتاب القصة أن يتحولوا نحو كتابة الرواية، تتيحها لهم تجربة السرد ومحاولة تجريب نفس أدبي أطول ومتشعب وأكثر إرهاصا و غموضا، وما تتيحه المساحة أيضا للغوص في الأحداث والتفاصيل وخلق شخوص، وهي تجربة تبدو أكثر إثارة من كتابة قصة قصيرة قد ينحصر فيها الكثير من المخيال، أو ربما لأن كتابة نص أدبي مختصر ومكثف في اللغة والرؤية والأسلوب، قد يكون أكثر تعقيدا من كتابة نص مسترسل، وهذا ربما ما يشجع أيضا القاص لهجرة هذا الفن الأدبي. وأيضا أعتقد أن شهرة الكتاب الجزائريين في الرواية هو ما يدفع أيضا الكتاب الشباب لولوج هذا العالم، فهم متأثرون بإبداعات الجيل السابق من الأدباء، وما نالته رواياتهم من حضور وشهرة كرائعة نجمة لكاتب ياسين، والتطليق لرشيد بوجدرة، وثلاثية محمد ديب، وأحلام مستغانمي... وتجارب أخرى شابة ومنفردة باللغتين العربية والفرنسية..بينما لا يحظى كتاب القصة من الجيل السابق، بحضور مماثل، ولا تتاح لهم مساحة النشر، رغم ما يثنيه القراء و النقاد على أعمال مرزاق بقطاش مثلا، ويعتبرونه من أبرز كتاب القصة في الأدب الجزائري الراهن..لكن يبقى هذا النوع محصورا في زاوية ضيقة داخل المشهدين الثقافي و الإعلامي عندنا. والسؤال الذي نطرحه هو ماذا بعد الرواية الحديثة؟؟، وسنرجح أن تحل محلها القصة القصيرة لا محالة، فنحن في زمن السرعة والتدفق الكبير للمعلومات والنصوص بفضل الانتشار الرهيب لشبكات الاتصال والتواصل الاجتماعي، حيث أصبح المتلقي ذي وقت وصبر ضيقين يتفادى الثرثرة و يجنح نحو العبارات المكتنزة والمكثفة، يتطلع نحو جمل فلسفية وأدبية وعلمية تقول كل شيء في أقل عدد ممكن من الكلمات... وهذا هو جوهر فن القصة القصيرة، أو القصة القصيرة جدا....وهذا ما قد يبشر بعودة هذا الجنس الأدبي وبقوة خلال السنوات القليلة القادمة.
يوسف شنيتي: القصة لن تموت والذين يهدرونها فقراء في إقناع القارئ يهجر القصاصون القصة لصالح الرواية ربما لفقر الإقناع أو فقر الوسيلة، لأن القصة جنس أدبي لا يختلف عن الشعر والرواية، وستبقى كذلك ولو صار العصر عصر الرواية كما يروج هنا وهناك، مع أن نوبل احتفت بكتاب القصة أيضا. في الجزائر، هناك كتاب أصروا على الوفاء لهذا الجنس التعبيري وبحب لا يبدلون أبدا حبيبهم الأول، من هؤلاء الدكتور مصطفى فاسي وأنا كذلك من الأوفياء، حتى ولو أتصدى الآن لعملي الروائي الأول الذي سيصدر قريبا، أو أرجو ذلك على الأقل، القصة كما أكتبها قصة ومضة من نوع القصص القصيرة جدا فيها التكثيف والإيحاء واللغة الدلالية وبالتأكيد هي تعبر عن هواجسي بما تحبل من قيم تعبيرية وفكرية وشعورية وليس لدي إشكال بهذا الشأن لأن المبدع حينما ينخرط في الكتابة يحدد جنسها ولونها ولا يكتب هكذا. إدوارد الخراط كان كاتب قصة جيد حتى ولو كتب الرواية وإني لأراه أوفى وأبهى فنيا في القصة عنه في الرواية "المشكة" ليست في اللون الذي نكتب به ولا مدى انتشار هبل في القدرة الفنية والتميز لا خوف على القصة القصيرة في الجزائر. حتى وإن بدا بأنه أوان الرواية الاستعجال آفة الكتابة الفنية وبالنهاية نحن لا نكتب إلاّ نصا واحدا والباقي استنساخ.