كان الشاعر الفلسطيني محمود درويش، يسأل أباه في إحدى قصائده الشهيرة وهما يخرجان للسهل، لماذا تركت الحصان وحيدا يأبي؟، يجيب هذا الأخير في ذات النص..إلى جهة الريح يا ولدي، حيث يقيم جنود بونابرت تلاً لرصد الظلال على سور عكا القديم، يسأله مجددا إلى أين يا أبي: لا تخف.. لا تخفْ من أزيز الرصاص! التصقْ بالتراب لتنجو!، درويش الذي سأل أباه عن سبب تركه للحصان، هو أيضا تخلف عن حمايته ورحل قبل عشر سنوات، كانت مشيئة القدر أن يغيب وتعود ذكراه اليوم، بنفس سؤال الأمس، لكن بصيغة أخرى في ظل تياهان فلسطين- الحصان ، القضية التي تاجر بها الجميع، وأقاموا على إسمها مأدوباتهم، خلدها درويش، في شعره حين الحضور وحين ذكرى غيابه، ليرث السؤال عن أبيه بتركة ثقيلة، لماذا تركت الحصان وحيدا يادرويش؟ تعود الذكرى العاشرة لرحيل محمود درويش، ولا شيء تغير، في الحصان - فلسطين، لا حاجة أن نضيف إلى اسمه صفة الشاعر. فلا يعتقد أنه يوجد من نطق أو سمع شعرا ولا يعرف درويش، تمرّ الذكرى بينما يعيش العالم العربي شتاته الوجودي وعذاباته اليومية دون أن يلتف حول أي شاعر أو مجموعة شعراء، بل أن الشعر صار تهمة في فضائه والشعراء غرباء في أرض الشعر. 7 حصان البروة ينطلق! ولد محمود درويش في عام 1941م، أي قبل 7 سنوات من احتلال الصهاينة لفلسطين، في قرية البروة الفلسطينية الواقعة في الجليل شرق مدينة عكا الساحلية، وبعد حرب 1947م احتلت إسرائيل جزءاً من فلسطين، وشردت أهلها إلى البلدان المجاورة فوجد محمود درويش نفسه في قريةٍ داخل جنوبلبنان مع عشرات آلافٍ من أهله اللاجئين الفلسطينين، وكان عمره لم يتجاوز السادسة، وكان الاعتقاد لدى اللاجئين، بأنّ عودتهم إلى ديارهم قريبة إلا أنّ عائلة محمود درويش فهمت بأن ذلك سيكون طويلاً فعادت إلى قريتها، إلا أنّ إنهم وجدوا قريتهم قد دمرت تماماً وتم الاستيلاء على أملاكهم وبيوتهم فسكنوا في بلدةٍ مجاورةٍ اسمها دير الأسد ، ثمّ انتقلت عائلة محمود درويش إلى حيفا ومكثت فيها عشر سنواتٍ؛ حيث أنهى محمود درويش المرحلة الثانوية فيها وعمل محرراً في جريدة الاتحاد . من موسكو إلى القاهرة المحطة الأولى كانت في موسكو؛ حيث سافر بقصد إكمال دراسته الجامعية وكان ذلك في عام 1970م، تعلّم خلال هذه الرحلة ولو بشكلٍ بسيطٍ اللغة الروسية، ولم تكن موسكو بالصورة التي كانت في ذهنه فغادر موسكو متوجهاً إلى مصر. كانت القاهرة هي المحطة الثانية بحياة محمود درويش، فبقي بها سنتين التقى خلال إقامته في القاهرة بكتّابها الذين يقرؤون لهم أمثال محمد عبد الوهاب، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس؛ حيث عمل في نادي الأهرام إلى جوار نجيب محفوظ وغيره من كتاب الأهرام، كما كان يلتقي بكثيرٍ من شعراء مصر في ذلك الوقت مثل: صلاح عبد الصبور، وأحمد حجازي، وأمل دنقل، فتأثر بهؤلاء الشعراء وحدث تحولٌ في تجربته الشعرية فلاقى الدعم والمساندة من هؤلاء الشعراء، خاصةً في شعره الوطني الذي يمجّد فيه المقاومة، خاصةً بعد هزيمة العرب بحرب 1967م، حيث كان الشعب العربي يشجّع الشعر الذي يتحدث عن فلسطين والمقاومة فيها. أمّا المحطة الثالثة، ففيها انتقل محمود درويش من القاهرة إلى بيروت في عام 1973م، فعاش ظروف الحرب الأهلية اللبنانية التي ألحقت الدمار بالكيان اللبناني، فكانت القوى اللبنانية تتقاتل، وانجرّ إلى الحرب الفلسطينيون الذي كانوا يقيمون على أرض لبنان وهذا أحزن محمود درويش كثيراً، فهاجر الكثير من اللبنانيين إلى البلدان الأخرى وكان محمود درويش، من الناس الذين تركوا بيروت بعد دخول الجيش الإسرئيلي إليها فغادر بيروت وهو محباً لها، حيث غادر إلى تونس. أوراق الزيتون الخالدة ويعتبرالشاعر محمود درويش، من أكثر الشعراء الفلسطينيين شهرةً، وقد نشر أول مجموعة من قصائده، وكانت أوراق الزيتون، في عام 1964م، عندما كان عمره 22 عامًا، ومنذ ذلك الحين نشر درويش ما يقرب من ثلاثين مجموعة شعرية ونثرية، حيث ترجمت إلى أكثر من 22 لغة. بعض من عناوينه الشعرية الأخيرة تشمل أثرالفراشة وقد كان درويش يعمل محررًا في مجلة شهرية لمنظمة التحرير الفلسطينية ومدير مركز أبحاث المجموعة. و في عام 1987، عين في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، واستقال في عام 1993 في معارضة اتفاق أوسلو. وعمل أيضا في منصب رئيس تحرير ومؤسس المراجعة الأدبية الكرمل التي نشرت من مركز السكاكيني منذ عام 1997م. وكما حصل محمود درويش على العديد من الجوائز، وتشمل جوائزه وأوسمة شرفه جائزة ابن سينا، وجائزة لينين للسلام، وجائزة لوتس لعام 1969م من اتحاد الكتاب الأفرو آسيويين، ومنح رتبة نبيل في فرنسا للفنون، وميدالية بيلز ليترز في عام 1997م، وجائزة عام 2001م للحرية الثقافية من مؤسسة لانان ، وجائزة ستالين للسلام من الاتحاد السوفييتي. شاعر المقاومة ما من شاعر شغل الإعلام والجمهور معا كما فعل محمود درويشي، لقد ظل يهزّ الجميع قبل أن يسلم روحه، اليوم يهتز العالم لخراب اطرافه ولسوء حظ الإنسانية ليس هناك درويش يواجه كل هذا الدمار بكلمات من حب وناري فقد كان كالروح تحرس الانسانية وينشد على باب الياس قصيدة فنرى الحياة. لم يكن درويش موعودا لحب عظيم، لكنه عاشق كبير ولم يكن محاربا لكنه انتصر دائما، منذ مولده في مارس 1941 وإلى غاية رحيله بهيوستن الأمريكية وهو يتدرّج سلم المجد، وجد نفسه صوتا للجماعة، رغما عنه فقد أصبح في الثانية والعشرين من عمره شاعر مقاومة لأنه أصدر ديوانيه أوراق الزيتونى (1964) ثم عاشق من فلسطين (1966)، ثمّ ظلت فلسطين عالقة بملامح وجه الشاعر وخطواته وبقصائده حتى وإن كان يتحدث عن تجربة عشق أو حبي لقد أصبح مقرونا بها أينما حل. أمي فلسطين ينظر إلى قصائده الأولى أنها صرخة صادقة ليست من شاعر فحسب، ولكن من إنسان يقف على أرض مضطربة ويدين وضعه الذي لا ذنب له فيه سوى أن الأقوياء قرروه له. هكذا تحولت قصيدة أمي إلى أغنية شوق وموقف اكتنزت أكثر من معنى داخلها من هي الأم وكيف يراها، هل هي العجوز حورية التي رثته بقصيدة عامية إثر رحيله أم هي فلسطين، أمة تذوي أم هي الأرض قاطبة؟ يعتقد درويش، أن قصيدة أمي كانت اعترافا بسيطا لشاعر يكتب عن حبه لأمه لكنها أصبحت أغنية جماعية ويضيف عملي كله شبيه بهذا أنا لا أقرر تمثيل أي شيء إلا ذاتي غير أن تلك الذات مليئة بالذاكرة الجماعية . استقر درويش برام الله منذ 1991 وقرر البقاء إلى أن تتحرر فلسطين، معتقدا أنه في اليوم اللاحق لحصول الفلسطينيين على دولة مستقلة لدي الحق بالمغادرة . قبل تجربة رام الله، كان درويش قد عايش تجربة غزة أين يقول صدمتني غزة لم يكن فيها ولا طريق معبد فكيف تراه يجدها اليوم بعد أطنان من القنابل العمياء، وبعد أن صبّ الجيش الإسرائيلي الموت على الأطفال والنساء والعجائز. يوم شعرت بالموت عدت الى الحياة ! من أقدر من درويش ليحكي لنا تجربة الموت؟ ففي سنة 1984، أجريت له عملية على قلبه لإنقاذ حياته يقول عنها: توقف قلبي دقيقتين أعطوني صدمة كهربائية، ولكنني قبل ذلك رأيت نفسي أسبح فوق غيوم بيضاء تذكرت طفولتي كلها استسلمت للموت وشعرت بالألم فقط عندما عدت إلى الحياة . هذه التجربة عمقت رؤيته للشعر والحياة وتضاعفت شعريته وموقفه من الحياة إثر تجربة ثانية مشابهة سنة 1998، وبعدها بسنتين صدر لمحمود جدارية التي تشكل بعدا مختلفا في عالمه الشعري المتصاعد. لعل الشاعر الذي تنقل بين عواصم ومدن العالم لاجئا زائرا أو مقيما، تشبع بتجارب وجودية مختلفة، لا يمكنها أن تفر من طقسه الكتابي اليومي كل صباح وهو يتجهز لرصد حالته شعريا، غير أن القمح مر في حقول الآخرين والماء مالح .. يقول محمود درويش: أعرف أنهم أقوياء ويستطيعون الغزو وقتل أي شخص، غير أنهم لا يستطيعون تحطيم كلماتي أو احتلالها ، والمفارقة أن كلمات درويش فتحت المدارس الإسرائيلية التي تدرسها فيما بقيت المدارس العربية مغلقة أمامها في الغالب. دوريش كان شاعر حياة، يستلهمها من الموت ولا يبالي، وكان ينظر إلى العالم ويصفه في كل مرّة فيجيز ويصيب وما أشبه اليوم بالبارحة لا القوة انتصرت ولا العدل الشريد . أما الآن، فالعالم يسمعه وهو يقول: وحدنا نصغي لما في الروح من عبث ومن جدوى... ويجيبه من شعره كل الذين ماتوا...نجوا من الحياة بأعجوبة . انطفأت شمعة طالما أضاءت درب الإنسانية بالكلمة، لتبقى عينيها مصوبة اتجاه الحرية، في الولاياتالمتحدةالأمريكية يوم السبت في 9 أوت من عام 2008م، بعد إجراء عملية قلبٍ مفتوحٍ في المركز الطبي في هيوستن، وتم إعلان الحداد لمدة ثلاثة أيامٍ على وفاته في فلسطين، وتمّ إحضار جثمانه إلى مدينة رام الله، حيث دفن في ساحة قصر رام الله الثقافي.