صدر حديثا في ألمانيا كتاب »من أنا عندما أكون على الأنترنت«، وعنوانه يدل على المحتوي، فالجلوس لساعات طويلة أمام شاشة الكومبيوتر والبحث في الأنترنت يحدث تغيرات في الشخصية الإنسانية أهمها هو فقدان الإحساس والمشاعر. هكذا يأخذنا عبر فصول الكتاب المختلفة المؤلف والباحث الألماني في الشؤون العلمية »نيكلاوس كار« ليعرفنا على أهم المخاطر التي قد يسببها الإنترنت للإنسان. فقدان الإحساس يبدأ الكتاب بذكر إحصائية عن عدد الألمان الذين يبحثون في الأنترنت. ويقول المؤلف أن الغالبية العظمى من الألمان يقضون قرابة الساعتين ونصف الساعة أمام الأنترنت يوميا، غير أن ساعة واحدة بانتظام كافية لإحداث تغيرات في الدماغ البشري وفق أبحاث العلماء التي عرضها الكتاب بالتفصيل حيث تؤكد تلك الأبحاث على حدوث تغيرات سلبية منها على سبيل المثال فقدان المشاعر والأحاسيس لدى الإنسان. من هذا المنطلق بدأ المؤلف بحثه عبر صفحات الكتاب في قضية محددة لماذا يخسر الإنسان نفسه أمام الأنترنت؟ وكيف يتم ذلك؟ والإجابة ببساطة كما يذكرها المؤلف تكمن في رغبة الإنسان الجامحة إلى المعرفة وإلى البحث بعمق وتقصي الحقائق من أجل الحصول على المعلومات الجديدة، وأمام سهولة استخدام الأنترنت وهذا الكم الوفير من المعلومات التي يوفرها، إضافة إلى الانغماس في الخدمات العديدة التي لا يجد المستخدم مفر من استخدامها مثل الإيميل وخدمات »الفيس بوك« و»تويتر« فإن كل ذلك يلعب دورا في تشتيت الذهن وعدم التركيز، ويقول المؤلف في هذا الصدد إن نتائج المعرفة لدى المستخدم تصبح مجّزئة وغير كاملة بل ومزعجة في بعض الأحيان. تعطيل الفكر والمعرفة يذكر المؤلف أن السبيل الوحيد بالنسبة لنا لفهم القضايا المعقدة والشائكة في المعلومات هي تشكيل وترتيب الأفكار بشكل صحيح، لتبقى بعد ذلك نبراسا راسخا للذاكرة الممتدة، ولكن عندما نبقى لوقت قصير نبحث في الأنترنت في ذلك الكم الكبير والمتدفق من المعرفة. يجعل ذلك الشخص مشتت التفكير قليل التركيز، ويقول علماء النفس إن هذا الكم الكبير من المعرفة الزائدة لذاكرة محددة من أجل استخدامها فيما بعد على مدى أطول تجعل من مسألة المعرفة ومن ثم التذكر مسألة سطحية ليس فيه أي عمق. من جهة أخرى يدحض المؤلف »نيكلاوس كار« فوائد الأنترنت بالمطلق، ويرى أن الاعتماد عليه يجعل إنتاجيتنا الفكرية محددة وجزئية فقط، فمن المعروف أن الأنترنت يسمح لنا بجمع المزيد من المعلومات في وقت قصير جداً. وعندئذ فإن من يرغب في مزيد من المعرفة يعني ذلك ببساطة أنه يلزمه المزيد من البحث لوقت طويل ليستدل على معاني الأشياء العميقة.. وفي هذا الإطار يشير الكاتب إلى الدراسة الجديدة التي ظهرت في شيكاغو وتقول إن كثير من الأكادميين والباحثين في الجامعات المختلفة الذين يعتمدون بشكل أساسي على الأنترنت في الحصول على مصادرهم، هم أقل كفاءة من الذين يسعون للحصول على مصادرهم من أشياء أخرى مثل المكتبات، ففي الحالة الأولى تكون المعلومة مجّزئة وغير كاملة وتفسير ذلك وفق المؤلف أن محرك البحث »ڤوڤل« على سبيل المثال يدخل عمله في النطاق الشعبي غير التخصصي، مما يعني أنه يحمل مجموعة صغيرة من المعرفة والمعلومات مقارنة بتلك الوسائل الكلاسكية في البحث التي تحمل معلومات أكثر قيمة وذات مغزى ودلاله، ووفق رؤية الكاتب فإن محركات البحث على الأنترنت بشكل عام تقيد حركة البحث عن التفاصيل ذلك أنها لا تصل بنا إلى ما نطمح إليه في الحصول على تنوع في المحتوي الكيفي للمعلومات. فقدان العواطف من خلال تعدد المهام في موضع آخر من الكتاب يتحدث »نيكولاس كار« عن مفارقة أخرى ينفرد بها الأنترنت وهي كفاية المهام التي يمكن أن يؤديها إلى الفرد للقيام بها في وقت واحد ويقول إن الباحثين في جامعة »ستانفورد« قاموا بعمل بحث قسّموا فيه فريق المتطوعين إلى قسمين لإجراء الاختبارات عليهم الفريق الأول يقوم بمهام متعددة على الأنترنت في وقت واحد والفريق الثاني يقوم بإنجاز مهامه واحدة تلو الأخرى.. وخلصت نتائج البحث إلى أن المجموعة التي تعمل في مهام متعددة في وقت واحد ليس لديها القدرة على التمييز بين الشيء المهم والشيء الغير مهم إضافة إلى تشتت الذاكرة وفقدان التركيز، أما المجموعة الأخرى فكان تركيزها أقوى ونتائجها أفضل بكثير. يرى المؤلف أيضا أن الأنترنت يمكن أن يؤثر في الشخصية وفي قدرة الشخص على تطوير مشاعره ويستدل على ذلك بأنه وبعد عشرين سنة على إنشاء شبكة الويب العالمية فإن الباحثين في الدماغ البشري يرون أن العواطف تتولد في العقل البشري بشكل بطئ نسبيا، أما الانشغال في الأنترنت باستمرار وفقدان التركيز أمام كم المعرفة الزائدة يمكن أن يتسبب في فقدان الفرد لمشاعره وإصابته بالخواء العاطفي. يعترف »نيكولاس كار« في كتابه أنه لا يمكن العودة إلى الوراء بعد دخول الأنترنت حياة الناس وتوغله فيها، ولكنه يدعو إلى تعامل أفضل مع الأنترنت وتقليص عدد الساعات التي يقضيها الشخص أمام الشبكة العنكبوتية. ويقول إن الأنترنت يمكن أن يصبح فعالا عندما يتم تداوله في سياق أوسع وأشمل في مختلف النواحي الثقافية والتاريخية والإجتماعية للأفراد والمجتمعات، ويجب أن ندرك أن قيمتنا سوف تزداد بزيادة قيمة عقولنا، وأننا يمكن أن نتسبب في فقدان أنفسنا عندما نقضي الكثير من الوقت أمام الأنترنت، من المعروف أن إغراءات الأنترنت في تزايد مستمر ففي العشرة سنوات الأخيرة حدثت طفرة كبيرة، وقد حان الوقت الأن لإعادة النظر في عدد الساعات التي نقضيها أمام الأنترنت قبل حلول الخطر الذي يمكن أن يصيب عقولنا.