يعد المعماري سنان باشا (895 ه - 996ه / 1490م- 1588م) أبرز وأشهر البنائين المسلمين في القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، سواء في الدولة العثمانية أو على مستوى العالم الإسلامي، فقد تميّزت أعماله البنائية والمعمارية بالكثرة والقوة والمتانة والضخامة المصحوبة أيضا بمظاهر من الجمال والرّوعة، ومن ثم فقد أطلق عليه الأتراك لقب (أبو العمارة التركية)، وهو يعرف في كتب التاريخ بعدة أسماء، منها: سنان باشا، سنان آغا، ميمار سنان، خوجه باشا. وسنحاول أن نستعرض تاريخ هذا المعماري العظيم وعصره والمؤثرات والعوامل التي وفّرت له إنجاز وتحقيق مثل تلك الأعمال المعمارية الشامخة. * سنان باشا.. مولده ونشأته ولد يوسف بن خضر بك بن جلال الدين الحنفي الرومي المشهور بسنان باشا في قرية (آغير ناص-آغريناس) (سميت هذه القرية فيما بعد باسمه قرية ميمار سنان قوي تخليدا لأعماله الهندسية) التابعة لولاية قيصرية في الأناضول من عائلة مسيحية، سنة 895 ه /1490م في عهد السلطان بايزيد الثاني بن محمد الفاتح، وعرف منذ صغره بحبه لشق قنوات المياه في الحدائق، وشغفه ببناء الأكواخ وحظائر الحيوانات. ولأن طموح سنان باشا كان عاليا جدا فقد التحق بالجيش العثماني، ليحصل على فرصة للتعليم والحصول على وظيفة كبيرة في الدولة. إنتقل سنان إلى العاصمة التي تلقى تعليمه في إحدى مدارسها، وإلتحق بمدرسة ابتدائية فيها تعلم القراءة والكتابة والفنون التطبيقية، ثم استكمل تعليمه في (الأوجاق) المعماري الخاص. و(الأوجاق) هو مدرسة العمارة التي تربى فيها كبار المعماريين من أمثال: سنان باشا، وداود أغا، وغيرهما ممن شيدوا أعظم الآثار في تاريخ العمارة العثمانية والعالمية. شارك سنان آغا في الغزوات الحربية التي قام بها السلطان بايزيد الثاني، وروى عنه أحد المؤرخين بأنه أخذ عنوة وفق نظام (الدوشيرمة) ليكون إنكشاريا عام 918ه / 1512م. وبعد انتهاء مدة تعليمه العسكري حارب في حملة بلغراد 927ه / 1521م وساهم في حروب السلطان سليم الأول على بلاد فارس والشام، والعراق ومصر، كما زار دول البلقان والمجر وجنوب فرنسا. وتدرّج سنان باشا في عدة وظائف عسكرية خلال حكم السلطان سليم الأول(918ه - 926ه /1512 -1520م)، فقد حصل سنان باشا على مكانة كبيرة داخل الجيش، نتيجة جهوده في وضع تصميمات البناء لمراكز وتجمعات الجيش العثماني وإنشاء الجسور والقلاع والحصون الحربية. على أن تفوّقه وبروزه المعماري جاء خلال فترة حكم السلطان سليمان القانوني (926ه - 973ه / 1520 -1566م) الذي عُرف عصره بالعصر الذهبي للدولة العثمانية. فأنشأ سنان جسرا فوق نهر (بروت) خلال 13 يوما، كما بنى جسرا آخر على الدانوب جعل السلطان سليمان القانوني على أثره يمنحه لقب كبير مهندسي الدولة العثمانية عام 944ه / 1538م. * تكوينه والمؤثرات عليه لا شك في أن فترة بروز وظهور المعماري سنان باشا كانت من أقوى عصور الدولة العثمانية قاطبة، فالفترة من منتصف القرن الخامس عشر الميلادي وحتى نهاية القرن السادس عشر، تمثل فترة الازدهار والقوة في تاريخ الدولة العثمانية. ومع ترعرعه في ظِل دولة السلطان سليمان القانوني، تأثر المعماري سنان باشا بما يدور حوله من أمور وأحداث تتعلق بكافة الميادين، ومنها بالطبع فن العمارة. * المؤثر الخارجي في عقلية سنان باشا المعمارية لم يقتصر الإزدهار العثماني في ذلك العصر على الفنون والآداب فحسب، بل إمتد إلى كل المجالات ومنها العمارة. ومن الحقائق البارزة في تاريخ الدولة العثمانية الإهتمام بالمدارس العسكرية، ومن ثم كان التحاق سِنان باشا بالمدرسة العسكرية في إستانبول، وتخرّجه فيها. وبما أن ميمار سنان قد صحب السلطان سليمان القانوني في فتوحاته الأوروبية بمنطقة البلقان، باعتباره مهندسا عسكريا، فقد توفرت لسنِان فرصة الاطلاع على العمائر الأوروبية التي عرف عنها تميزها بالضخامة والاهتمام بالزينة والزخارف. هذا ما يمكن قوله عن الجانب أو المؤثر الخارجي في عقلية سنان باشا المعمارية. * المؤثر التركي في عقلية سنان باشا المعمارية أمّا الجانب أو المؤثر التركي في مدرسته البنائية والمعمارية، فقد تفتحت عينا المعماري سنان في الأناضول على رؤية العمائر السلجوقية التي لا يخلو موقع في مناطق الأناضول من وجودها. وإذا كان سنان باشا قد تأثر بفكرة العمائر الضخمة والعالية الارتفاع عند زيارته لأوروبا، فإنه أخذ جانب العمارة الشاملة بمفهومها الإسلامي من المدرسة المعمارية السلجوقية. * تأثير كنيسة آيا صوفيا على سنان باشا هناك أيضا مؤثر ثالث في الفكر البنائي المعماري لسنان باشا وهو كنيسة آيا صوفيا بإسطنبول، التي تحوّلت لجامع إسلامي بعد فتح السلطان محمد الفاتح للقسطنطينية في عام 857ه / 1453م. ومن آيا صوفيا أخذ ميمار سنان فكرة العمل المعماري الديني الضخم، الذي ترسخ في ذهنه بتمعنه ونظراته الطويلة لآيا صوفيا. بإختصار إذن نقول: (إن المعماري التركي العثماني سنان باشا قد تأثر فكره الهندسي في مجال العمائر الدينية بروافد ثلاثة هي على التوالي: سلجوقية، وأوروبية، وبيزنطية). * سنان باشا.. كبير المعماريين في الدولة العثمانية بعد وفاة عجم علي كبير المعماريين الرسميين في الدولة العثمانية، عُيّن سنان باشا في منصبه تقديرا لكفاءته سنة (944ه / 1538م)، وبتوليه هذا المنصب أصبح مسئولا عن إقامة الأعمال المعمارية من قصور ومدارس وأضرحة وسبل مياه وحمامات ومطاعم خيرية، ومتوليا شق الطرق في العاصمة وبناء الأرصفة، ومراقبة أعمال البناء في كل أرجاء الدولة العثمانية، وكانت له صلاحية اتخاذ القرارات الخاصة بهدم الأبنية المخالفة للنظام، والإشراف على أبنية القلاع، وعهد إليه بالإشراف على المهندسين المعماريين في الخاصة السلطانية، وكانوا أهم الشخصيات الفنية في عصره مثل: المعماري داود أغا الذي بنى الجامع الجديد يني جامع ، في إستانبول وهو أثر معماري عظيم، والمعماري محمد أغا الصدفكار الذي شيد جامع السلطان أحمد المشهور بالجامع الأزرق الذي يعد أحد التحف المعمارية الخالدة في العالم. * تلاميذ سنان باشا من تلامذته: أحمد آغا، وداود آغا، ويتيم بابا علي، ويوسف وسنان الصغير، وهناك الكثيرون ممن يخلطون بين سنان الصغير وسنان المهندس الأكبر، ويعتقد بأن يوسف كان تلميذ سنان المحبوب، وينسب إليه تشييد قصور لاهور ودلهي وأكرا للسلطان المغولي الشهير جلال الدين أكبر في الهند. * أعماله المعمارية إهتم سنان باشا بدراسته الهندسية حتى أصبح أستاذا بارعا في هندسة القباب، وتنسيق المساحات الفضائية الواسعة داخل البناء، وترك لنا ميمار سنان 441 أثر هندسي رائع، من بينها 80 مسجدا سلطانيا، و50 مسجدا عاديا، والعديد من المستشفيات، والقصور الفخمة، والحمامات التركية الشهيرة، والجسور، والأضرحة، وبيوت القوافل، والخزانات لحفظ المياه للشرب، وغيرها من الآثار المعمارية، وخلّف لنا بصمة تاريخية تمجده وتنشئ مدارس تابعة ومقلدة لأسلوبه وطرازه المعماري. لم تقتصر أعمال سنان المعمارية على العاصمة، بل امتدت لتشمل كثيرا من أنحاء الدولة العثمانية، فشيد جامع محمد باشا البوسني في صوفيا عاصمة بلغاريا، وجامع خسرو باشا المعروف بجامع الخسروية في حلب، وجامع السلطان سليمان، ومطعم السلطان الخيري في دمشق، وقام في مكة بترميم قباب الحرم المكي وبناء مطعم خيري باسم خاصكي سلطان عام 945ه / 1539م، فاستخدم العقد الركني ذا الفصوص الظاهرة على شكل محارة، ويشبه إلى حد بعيد مسجدا في كبزة لأحد ولاة مصر السابقين جوبان مصطفى باشا، وله كذلك مدرسة السلطان سليمان، وله إلى جانب ذلك أعمال معمارية في البصرة والقدس والمدينةالمنورة. * أهم مراحل سنان باشا المعمارية وقد مر المهندس سنان آغا في تطوره المعماري بثلاث مراحل كل منها يتمثل في مبنى من مبانيه، وقال هو عنها أن الأول يمثله صبياً يتعلم، والثاني معمارياً متمكناً، والثالث أستاذاً، أما المبنى الأول فهو مسجد شاه زاده في إسطنبول (951ه - 955ه / 1544م - 1548م)، الذي يسير فيه على نسق جامع المحمدية، والثاني هو جامع السلمانية في إسطنبول أيضًا (957ه - 964ه / 1550م - 1557م)، الذي يرتد فيه إلى أصول آيا صوفيا ويتقنها اتقاناً كاملاً، أما الثالث فهو عمله الأكمل في مسجد السليمية في أدرنة عام (975ه - 982ه / 1568م - 1574م)، فهذه الأعمال هي التي حفرت اسمه بين عباقرة العمارة في التاريخ. ويصف سنان عمارة مسجد شاه زاده ، بأنه وليد تجربته الأساسية في الولوج بطريق تصميمي خاص به في تعامله مع الفضاءات المقبّبة، وإذ يعتبر عمارة مسجد السليمية في أدرنه بمثاية رائعته التصميمية، فإنه يشير إلى عمارة مجمع السليمانية كونها مرحلة تتسم بنضوجه المهني في تعاطيه مع عمارة القباب والفضاءات المقبّبة. * مسجد شاه زاده - بنى سنان باشا جامع شاه زاده عام 951ه / 1544م بأمر من السلطان سليمان القانوني في مدينة إسطنبول تخليداً لذكرى ولده شاه زاده محمد، وقد استغرق بناء هذا الجامع أربع سنوات، أي سنة 955ه / 1548م. - يلحق بالجامع المبني على هيئة هرمية مدرجة مجمع مؤلف من مدرسة ودار ضيافة موزعة بتناسق بديع. وفيه نلاحظ محاولات سنان الأولى في إشادة القبة المركزية وأنصاف القباب، فابتكر نموذجا للقبة المركزية وأنصاف القباب الأربع الدائرة من حولها كارتكاز للفراغ الواسع للقبة المركزية، بهذا يكون قد عالج أولى مشاكل القباب، ويبلغ قطر قبة الجامع الرئيسية 19م، وارتفاعها 37م، وللتخفيف من جمود كتلة البناء من الخارج عمد إلى تغطية روؤس دعائم القباب الأربعة الخارجية بقباب مضلعة على هيئة أبراج عوضاً عن بناء أبراج صغيرة حول القبة. * جامع السليمانية - يعدّ جامع السليمانية من أشهر أعمال سنان المعمارية المنجزة في عهد السلطان سليمان القانوني. ففيه قدم سنان تصميماً جديداً وجريئاً أحدث تحولاً هاماً في فن العمارة العثمانية والإسلامية. - ما أن أنهى سنان الستين من عمره حتى أنجز بناء مسجد السليمانية و استمر في بنائه مدة سبع سنوات (957ه - 964ه / 1550م - 1557م)، جاء هذا المسجد تحفة هندسية ونتيجة لخبرة طويلة بعد دراسته لمخطط آيا صوفيا ومعرفة سر وعظمة قبتها، وكشف مكامن الضعف فيها التي عرضتها للتشقق أثناء تعرضها للزلازل، وهو على ربوة عالية مطلة على القرن الذهبي، وأُلحِقَ به دار لإطعام الفقراء ومشفى ومدرسة للطب وحمام ودار للكتاب وأربع مدارس عليا وعدد كبير من الحوانيت، وفي الجهة الخلفية للجامع يوجد مدفن يضم ضريحين، أحدهما للسلطان سليمان وأخر لزوجته، بينما يوضع ضريح سنان باشا الذي شيده بنفسه على مقربة من الجامع. - إستخدم سنان في بناء الجامع نظام القبة المتوسطة ذات الارتفاع 53م، وقطرها 27م، وعلى جانبيها يوجد مجموعة من القبب الإضافية وسعت بقبب نصفية، وللجامع أربعة مآذن موزعة في زواياه، مئذنتان أماميتان قصيرتان نسبياً لكل منهما شرفتان، أما الاثنتان الأخريان فأكثر طولاً لكل منهما ثلاث شرفات، وترمز مآذن الجامع الأربع إلى أن السلطان سليمان القانوني هو رابع السلاطين العثمانيين منذ فتح القسطنطينية، بينما تشير الشرفات العشر إلى أن السلطان هو عاشر سلاطين آل عثمان منذ عهد مؤسس الدولة العثمانية، وبذلك يكون قد حقق سنان رغبة السلطان سليمان القانوني. - وقد لعبت قبة المسجد دورا كبيرا كجهاز لتضخيم الصوت، فتمتص الأمواج الصوتية المنخفضة، بينما القبب الصغيرة تمتص الأمواج الصوتية العالية، أي أنها استخدمت كمكبر للصوت قبل اختراع الميكروفون ب300 سنة، إضافة لتجميله نوافذه المضيئة بالزجاج الملون ومآذنه الأربع الحاضنة له من كل جانب، مطلة على المدينة كمشهد زخرفي يحتل الربوة منفردا. * جامع السليمية.. أعظم أعمال سنان - وصل سنان إلى القمة في عالم البناء والتشييد في جامع السليمية الذي يعد أعظم ما بني حسب رأي خبراء العمارة، وقد شيده بناء على أمر من السلطان سليم الثاني الذي خلف والده سليمان القانوني في حكم الدولة العثمانية، واختار سنان أعلى ربوة في أدرنة ليقيم عليها الجامع بحيث يمكن مشاهدته من أنحاء المدينة، وبدأ سنان في بنائه سنة (976ه / 1568م)، وانتهى منه بعد ست سنوات وقد قارب الثمانين من عمره، أي سنة (975ه / 1574م). - وغطى سنان المكان كله في الجامع بقبة واحدة قطرها 31.25 مترا دون اللجوء إلى أنصاف القباب التي كان قد استخدمها من قبل في جامع شاه زادة والسليمانية، وترتفع كل مئذنة من مآذن الجامع الأربع 70 مترا، وهي دقيقة نحيلة، وهي من أعلى المآذن في العالم، وتقع كل واحدة منها في زاوية من زوايا الجامع الأربع، وكل منها ذات ثلاث شرفات، وتتميز المئذنتان الواقعتان ناحية الباب الرئيسي بأن لكل شرفة من شرفاتها الثلاث سلالم مستقلة، أما المئذنتان الأخريان فلكل منها سلم واحد. ومنبر الجامع وميضأته من الرخام، وكتب خطوطه المولوي حسن بن قره حصاري. * وفاة سنان باشا إمتدت حياة سنان باشا حتى إقترب من المائة، وعاصر خمسة من سلاطين الدولة العثمانية، هم بايزيد الثاني، وسليم الأول، وسليمان القانوني، وسليم الثاني، ومراد الثالث، وبعد حياة مليئة بجلائل الأعمال توفي سنان باشا في (996ه / 1588م) تاركا ذكرى لا تضيع