المكان هو القاعدة المادية الأولى التي يقوم عليها السرد النص دائما بحاجة إلى مكان يحمله الخيال في هذا الحوار، يتحدث الكاتب والروائي خالد ساحلي، عن المكان في السرد والفن الروائي، ليس بصفته تيمة، ولكن بصفته القاعدة المادية الأولى التي يقوم عليها السرد، ويرى ساحلي في هذا السياق، أن كلّ تفاصيل الأشياء مجسدة المكان، جامعة لأوصافه مخططة لهويته، الأشياء وتفاصيلها، التي توصل الفهم للقارئ، للمتلقي الذي لا يفسّر نفسية شخصيات النص إلا من خلال ما يحيطهم من أشياء وما يستعملون، وعن كشوف الأماكن التي ينتقلون إليها وفيها، الأشياء العاكسة لسلوكاتهم ولردة فعلهم. المتلقي الذي يمكنه -حسب ساحلي- إنهاء النص مكان الكاتب ذاته، تحوّله بقدرة استيعابه إلى الكاتب الثاني . حاورته/ نوّارة لحرش ارتبط المكان دائما بالسرد وبمستويات متفاوتة، وقد اشتغلتَ على هذا الموضوع في عِدة مداخلات ومقالات والتي ستصدر قريبا في كِتاب في هذا المعطى. ما الذي يمكن أن تقوله تحديدا عن هذه الثنائية المتلازمة؟ خالد ساحلي: المكان هو القاعدة المادية الأولى التي يقوم عليها السرد، علاماته اللغوية، البناء للخيال، للفضاء، للباطن، للحلم والاكتفاء به، سعادة في لحظة التشبع، استحضارا للذات المغيبة المقصية وانتصارا لها، تجميعا لتشظيها، المكان داخل المكان تشكلا جديدا في انبعاث آخر للحلم وشوقا له. إنّه كما يقول غاستون باشلار «حلم اليقظة بالاكتفاء الذاتي إذ يستمدّ متعة مباشرة من وجوده ذاته، ولهذا فإنّ الأماكن التي مارسنا فيها أحلام اليقظة تعيد تكوين نفسها في حلم يقظة جديد». الحلم انتقالا وتدوينا لصورة الآخر، تجسيدا للشعور ورسما للحدث كما هو في ظل ذاك المحيط به، كثير من الشحنات والمحرك شعور يضفي ضوءا على المكان، مكسرا المسافة، في حين الآخر يتباعد محافظا عليها خوفا أو خجلا، وبعدها الامتداد في سرد الحلم. الكاتب ذاته «مكانا» حين يتحول إلى سؤال والآخر وتجاربه الماضية. تفاصيل الأشياء مجسدة المكان، جامعة لأوصافه مخططة لهويته، الأشياء وتفاصيلها، التي توصل الفهم للقارئ، للمتلقي الذي لا يفسّر نفسية شخصيات النص إلا من خلال ما يحيطهم من أشياء وما يستعملون، وعن كشوف الأماكن التي ينتقلون إليها وفيها، الأشياء العاكسة لسلوكاتهم ولردة فعلهم. المتلقي الذي يمكنه إنهاء النص مكان الكاتب ذاته، تحوّله بقدرة استيعابه إلى الكاتب الثاني حين يرسم المكان مرات عديدة داخل ذاكرته مقارنة بين أمكنة كثيرة لكلّ شخصية محللا طبيعتها. كثيرون متشددون بكثرة التفاصيل كُتّابا وقراءً، مبالغة في الوصف واستغراقا فيه، تفاصيل تتيح لهم الانفلات أكثر بما يُقدِمون من حجج، حين تتحول الأشياء إلى أحجية وتلبس الشخصيات داخل النص ويغيب الكاتب ليلبسه الراوي في المكان. كما يرى «بول ويست» في جماليات روب غرييه تحايله مع الزمن تلاعبا بالأشياء إخفاء لتجربته. كثيرا ما نجد النص يبحث عن تموقع في فضاء الحكي أو يحكي المنطقة أو المجال ذاته، ما رأيك؟ خالد ساحلي: يبحث النص عن تموقع في ازدواجية فلسفية وجدلية، الأمثولة التي لا تنتهي، النقيض الأبدي للأشياء والأمكنة، البحث عن فضاء الحكي طباعة على ورق أو قرص أو شاشة، تحوله إلى رموز داخل الويب، الحكي الذي يصف المنطقة التي انبعث منها، العلة بمعلولها، وسطٌ يترجم نفسية الحاكي التي ابتدعها، «فالإنسان ينعكس في الأشياء، والأشياء تنعكس في الإنسان» على حد تعبير مارسيل بروست. خيال يحمل مكانا ويرسمه، حلم يبني مكانا ويُشيده، المنطقة التي تختصر المسافة وتطوقها أو تطلقها لتصير بلا حدود والتفاصيل فيها نهاية غير مملة، المنطقة التي تتلاءم فيها الأشكال أو تتفتت إلى أشكال أخرى، تتفتت معها نفسية الحاكي فيجعلها مادة بناء يشكل بها ما يريده، يشيد الجدار للاختباء عن أعين شخصياته، كلام من وراء حجاب وجدار، تستحيل صورا يُطل من خلالها على أولئك العابرين والمعذبين وهم يلّوحون له بمآزر مطرزة زاهية الألوان تتراقص من بعيد ليراها وقد تحوّل المكان وحشة واغتراب، فلا يجد غير فضاء مرآة أدبه العاكسة يخبرهم بها وهي تومض لغة وإشارات. كلّ ذلك صنعته دلالات اللغة الزمانية التي صنعت المكان، وكما يقول شايف عكاشة «الأديب حين يستعمل اللغة، إنّما يقوم بعملية تشكيل مزدوج في وقت واحد، إنّه يشكل من الزمان والمكان معاني ذات دلالة». كأنّ النص دائما بحاجة إلى مكان يحمله الخيال، ويوظفه وفق سياقات العمل السردي/ الروائي؟ خالد ساحلي: صحيح، النص دائما بحاجة إلى مكان يحمله الخيال، وتحركه قوة إرادة تستوطن الصبر، مساحة ومهندس وبنّاء ومواد بناء، تؤسس أساسات سلّم يرتقي من خلاله بما يعوّضه الاطمئنان، المكان الانفلات، الهرب بخلاصه حيث السكينة وراحة النفس، والامتزاج في عوالم كثيرة متشابهة تهندس أمكنة مماثلة، الإرث المتروك ورائه، كلّ المتاع لمن أحبّهم وتعب لأجلهم بأن يكون زادهم، إنّهم: (القارئ، ومن يقاسمونه همّ الحياة، المعذبون، شخصيات مجرمة متوحشة، فاقدون معنى الجمال والحبّ، الباحثون عن أدوار مهمة في الحياة، المناضلون الأسرى، المقهورين، المرضى، المساكين، حتى الحمقى قدرنا المحتوم). المنطقة الجغرافيا مكان الميلاد أو المنفى أو العمل أو السجن وتلك اللحظات التي ارتسمت على الجدران والأشجار، والعناوين الصغيرة والكبيرة، والمحلات التي تحمل اليافطات العريضة بحروف ظاهرة بلغتين وأكثر، أحداث وأفعال الطفولة والشباب لمراحل الحياة السعيدة والبائسة للذكريات التي تحتل أهمية كبيرة من حياتنا التي نخصص لها أوقات زيارة أو مراجعة للذاكرة أو استعادة الماضي في شكل رسائل وصور وذكريات. المكان البيت السعيد مهما كان كوخ قش، البيت القديم بلفظ باشلار بيت الطفولة، مكان الألفة، محور تكيّف الخيال. الحنين مهما صاحبه العذاب، التحدي الساكن، الجدران والسطوح والأقبية والغيران والغابات، وقضبان الحديد، وطاولات لا تزال محفورة بأقلام قاسية ومِدور برأس مُدبب، وحتى ذلك البلاط الموشوم بزخارف. من الأمكنة الباهتة في السرد: مكان الطفولة، ما رأيك؟ خالد ساحلي: مكان الطفولة استعادة ذكراه، وصبغ مظاهر الحياة المادية فيه بإحساس الجمال والاطمئنان، إنّه الوجود الذي يمنح الحرية، أو كما يقول باشلار «بيت الأشياء». العش يبعث إحساسنا بالبيت، لأنّه كما يقول الناقد عبد الله أبو هيف، في دراسته «جماليات المكان في النقد الأدبي العربي»، يجعلنا «نضع أنفسنا في أصل منبع الثقة بالعالم، هل كان العصفور يبني عشه لو لم يكن يملك غريزة الثقة بالعالم». إنّه إدخال خيال المادة عبر ظواهرية الصور. المكان وطفولة الدراسة، المطعم والملجأ والمرقد، النظام المدرسي، تحمّل الذاكرة الممتلئة عن آخرها كما السد، الذاكرة، المكان ذاته يحمل الكثير من ذكريات الأمكنة. الحكاية التي كلّما ركبت رهان جملة عرفت المضمار الذي تتسابق فيه كثيرا من الشخصيات التي تتنافس فيما بينها أو تتعارك أو تتواصل حبا وكراهية، غلا وتسامحا ومغفرة، جسر الحوار ومقلب الضفة الأخرى للأصوات المغنية أو المعادية. إنّه النص حين يزاحم الكثير من الفضاءات: جرائد، مجلات، مواقع، منتديات، محطات، فضائيات، إذاعات. الأمكنة التي تنتظر النص الوافد من بعيد أو قريب، يحمل عنوانا واقعيا للحيّ والبيت والبلد، أو يحمل عنوانا رقميا يصل من دولة ما. الحيّز المبراة، المعصرة، المحك، الكير، الفرن، العذاب، أصنافه المحيط والجيران، الأفراد وداعي التأثر والتأثير، من البناية، العمارة، المحل، القرية، المدينة، العاصمة؛ وإمّا ذاك الحقل الزاهي، المخضر. النص الذي يزاحم الفضاء الأخلاقي ليحمل إليه الحانة وشخصيات سكارى، يلج المكان المقدّس مسجدا ديرا أو كنيسة بلغة وقحة، فيشتمه القارئ العادي ويعذره العارف ويسطر له نهاية سعيدة. القراء وحدهم من يملكون مفاتيح المكان حين يصيرون مكان الرواة بقراءتهم ويختفي الراوي الحقيقي، المكان نسيان الذاكرة أيضا، تعود الأخيرة حين يستقر الأمر كما بدأ ويوضع النص المتموقع في كِتاب على رف في مكان مرتفع أو منخفض بحسب الوصف، كِتاب يُعاد إلى مكتبة القاعة أو الغرفة، أو يختفي كما الوميض حين يطفئ الجهاز المتصل بشبكة إلكترونية عالمية مقرها لا شك دولة عظمى في التكنولوجيا والأدب أيضا. كيف ترى الكاتب وقدرته على إرساء النص في الأماكن والاستثناء؟ خالد ساحلي: يُرسي الكاتب نصه حيث جاذبية المكان، جاذبية الرّوح، جاذبية الذاكرة التي تلزم الموضوع رسما تجاوره بمّا هو أقرب للشرح والإيضاح، الفضاء والحيّز الذي تتنفس منه المشاهد كلّها، حاملة للاتجاهات المختلفة حيث يتحوّل المكان إلى إيديولوجيا ومصطلحا للسياسة. فاستعمال الصِفات يكون منوطا بالبيئة ومرتبط بها، بحيث يرى الناص من خلال زاوية الرؤية الواقع الثقافي والإيديولوجي كذلك. المكان الحامل للأمكنة المتنوعة، يزداد التركيز أكثر كلّما كان التوغل في النص أكثر، كلّما ضاقت وظهر انقطاع النفس الحكائي، يزداد صعوبة في البحث عما هو أكثر بغرض تحديده لتقريب الصورة لتثبيتها في ذهن القارئ، إقناعا له لقراءة أكثر جدية، توريطه لتحويل ذاته نفسها ذات الكاتب والشخصيات، منحه أفق المكان ورسمه ثم حمله في ذاكرة القارئ، اختيار الأمكنة اللائقة بجدليتها إظهارا للمليح والقبيح، التمظهر المتلون المتعدد الكامن المنبثق عن جمال شخصيات النص الذي لا يليق به إلا بيئته، لذلك يتعب الحاكي في جمع تفاصيل المكان وإلصاقها بلحظة زمن القراءة لتتجمع موحدة الإطار، الوقت المبذول بالتعب يحرر المكان ويغزل له تقاطعاته مع شخصيات النص فيتوهج الحدث وتحتدم اللغة حيث الدلالات تتشكل أكثر. في كلّ ذلك السفر والتجوَّال يبحث الناص عما هو استثنائي، المغاير، المختلف، حيث لم يجتاز القراء هذا المسلك وإن مروا عليه، ولن يتصوروا دخول مكان قد يوجد وقد كانوا فيه، هو الاستثناء في جمع القطع والزوايا التي تكمّل الصورة وتشكل الدوافع والأسباب وتفسر الأفعال والسلوك في أحداث النص. الاستثناء المركز وإلغاء ما هو على هامش الهامش الذي يحجب رؤية القارئ حين يُطل ويتابع الشخصيات والمكان الذي يجمعهم، الاستثناء الذي يغطي عين عدسة فلا ترى المكان ولا الأشخاص، وما معنى الكلام دون معرفة المتحدث به وجهل حالته التي لا نراها. يحمل الناص على خلق العلاقة التي تجمع الظروف والمكان لأنّ «فكرة العلاقة بين الأدب والمجتمع قديمة تضرب بجذورها في أعماق الفكر الإنساني. كما أكد عالم الاجتماع الفرنسي «إميل دوركايم» على اجتماعية الظاهرة الأدبية «أن الأدب ظاهرة اجتماعية وأنّه إنتاج نسبي يخضع لظروف الزمان والمكان، وهو عمل له أصول خاصة به، وله مدارسه». هل يمكن القول بأنّ هناك أمكنة شرعية في النص؟ خالد ساحلي: النص إعداد وتخطيط ومشقة، فبعد الأمكنة الكثيرة الداخلية المرسومة والموسومة في النص، يعمل الناص وشركائه في فكر البحث عن أمكنة خارجية، عن إعلانات جرائد، انتقائها وبلوغ مقرّاتها، عناوينها، إنّها أمكنة النص التي يستوطن ويحيا فيها اللحظة ويصير إلى الماضي أرشيفا، وقد يحيا وينبعث كما العنقاء من جديد فيمن يحيه بنقد أو كتابة أو تحليل وإخراج وتحوله إلى شاشة أو مسرح أو سينما أو حدثا مصورا، قد يحمله النقد إلى مكان آخر، خارج حدود بلد الناص، متنقلا في أمكنة جرائد كثيرة، وترجمة، متداولا في الأفواه تثمينا أو قدحا. وقد يعمل النقد على إتاحة ذلك للنص ويستدعي السؤال وسائلا نقدية بموجبها تمنحه جواز المرور إلى مكانه المحتوم في الكُتب والعمل السينمائي أو المسرحي، أو التعليمي من المدرسة إلى الجامعة، ومن الملتقيات خطابا ولفظا إلى المخابر تمحيصا وتفحصا. يدخل دور النشر، يرى المطابع ويمتزج الحِبر زارعا ذاته في موطن الورق، ترتوي الكلمات بالحبر وترسم الحروف الأمكنة وتهدأ روح الناص القلقة. ودائما يبقى المكان وجود يطوّق وجود الذات والجسد، إنّه الدليل الأنثربولوجي للأحياء منهم والأموات، ولهذا كلّه كما قال غاستون باشلار في كتابه «جماليات المكان»: «بدأ الاهتمام بالمكان وأصبح مرتبطاً بعالمية الأدب، إذ هو أحد أسباب الوصول إليها، لأنّ العمل الأدبي حين يفقد المكانية يفقد خصوصيته وأصالته. فالأدب الذي يكتسب عالمية هو ذلك الأدب الذي يستطيع أن يتبناه الإنسان ويجد فيه خصوصيته، ومثل هذا الأدب يشق الطريق إلى العالمية، ولكنّه يفعل ذلك عبر ملامح قومية بارزة وقوية أحدها المكانية».