غامضة هي عوالم الكتابة. وشقيٌّ هو من يرحل إليها متلبسًا بجنحة الاكتشاف. فلعل ما يشفع لقارئ "الموت في وهران"، في جنحته، هو هذا الجمال الخفي الذي يحيا بين أجنحة الموت. أ/حفيظة طعام في روايته "الموت في وهران" ينقلنا الحبيب السائح إلى عوالم تشدنا، خلال القراءة، بما أبدعه في إنشائها وتأثيثها وبما سَبِره من حيثياتها وخَبِره من شوارعها كما منازلها وفنادقها وكل زواياها. إنه لذلك نتكشف وهران بوجهها الآخر المختفي خلف مظاهر الأناقة والجمال. فقد رتب لنا الكاتب لقاءات مع شخصيات مختلفة تفنّن في رسم صورها. ثم أقحمنا بكل أدب في أجوائها وعوالمها المفتوحة. فإن أهم ما يميز "الموت في وهران" أنها رواية شخصيات بالدرجة الأولى، أثبت الحبيب السائح من خلال تسييرها، على مدار النص، قدرته على سبر أغوارها. فبرغم كثرة عددها يجد القارئ نفسه لا يشعر أنه أمام تكلف في وصفها أو إغفال لجانب من جوانبها. فكلها تبدو تحت سلطة الكاتب يحركها بإرادته. إن الأجمل من ذلك هو تقنية تحفظ الكاتب تجاه قرائه بتنويهه إلى أن "أسماء الشخوص، هنا، من فعل التخييل. أي تطابق لها في الواقع لن يكون سوى محض صدفة". برغم ذلك يجعلنا الحبيب السائح نتوهم أنها شخصيات حقيقة بأسماء متداولة في المجتمع الجزائري: "هواري، حسينة، حلومة، جمال الدين سعياد، بختة الشرڤي، قاديرو، خصرو البومة، كبابة، المعلم الطاهر فراحي، وهيبة بوذراع، حذيفة الشيخ، عبدقا النڤريطو، عيشة، ناصر العوْني، مريم بوخانة، عاشور بونعايم، احميدة الكلونديستان، مدير المدرسة، الروجي، العارم، عبد الجبار معموري، نوار مصمودي، الدكتور قدور بن حوار، الضابط شحمة، العساس عمي البشير، السرجينتي، مصطفى، العربي بوذراع، خْوانا، بوذن، ابن القايد...الخ, فكل تلك الشخصيات وغيرها تجعلك تستحضر صورتها من خلال اسمها. فإذا قلت "عبدقا النڤريطو" تتبادر إلى ذهنك صورته بملامحها.. وهكذا، لدرجة أننا نكذب أنفسنا أن تكون بختة الشرقي مجرد امرأة من ورق. فأنت، لقوة سرد حياتها، تشعر أنها موجودة في الواقع تتحرك وتمارس حياتها، بل ونعتقد أننا صادفناها فسردت لنا حكايتها بنفسها. هواري، هو الآخر نموذج الشاب الوهراني المدفوع نحو عجلة الموت التي تتدحرج به فيموت روحيا مرات: يفقد أمه وهيبة بوذراع ومعها يفقد الحنان. يفقد الحب. يفقد مقعده في الجامعة. ومن ثمة تتوالى عليه خيباته. إن فعل الفقد يتكرر في حياة هواري. فقْدٌ يحيل بدوره إلى الموت. يشير إلى امتداد عنوان الرواية عبر الأحداث وتمفصلات السرد. يقول انكسار الأحلام. يصف اصطدام الطموحات بسُرادق الفجيعة. يسجل الضياع في مدينة الموت. كأني بالحبيب السائح أراد تجسيد تيمة الموت في شخصية هواري وفي مدينة وهران معا فاتحدا مشكلين صياغة العنوان. فأما المدينة فهي هذا الفضاء الواسع والموحش؛ وأما الموت فيبدأ من وهران وينتهي فيها. لذلك تم وضع العنوان بالصيغة التالية "الموت في وهران". ذلك، ليدلل على أن للموت وجوها متعددة وانزياحات كثيرة بتعدد دلالات لفظة الموت في النص. وللموت في الرواية أيضا دلالات وأشكال ووجوه داخل ذهنية السارد. تلخص بدروها رؤية الكاتب الفلسفية للموت، فارتقت روايته بذلك عن كونها مجرد مشروع تخييل إلى كونها مشروع دراسة نفسية سيكولوجية للذات الجزائرية التي تعيش أزمة حقيقية في زمن الموت. فالروائي الحبيب السائح حين يتطرق لدراسة الشخوص وعوالمها نجده يتفنن في رصد تفاصيل كل شخصية على حدة بوصف دقيق لتفاصيلها في الحياة وممارساتها المختلفة بخرق جميل لخصوصياتها في النوم والأكل واللّبس وفي علاقتها والإحاطة دون تكلف بكل محيطها الداخلي والخارجي. ذلك يجعلنا نقر بأن رواية "الموت في وهران" مشروع بحث جاد محدد التيمة والبؤرة السردية. ومن المؤكد أن يكون ذلك كلف الكاتب الكثير من الجهد، فليس بالأمر الهين أن تُلم بحياة كل الشخصيات، دون تشويش على القارئ. لذا، فقد حضر الموت بوصفه جزءا مهما في سياق هذا النص. فحضور الموت بشكله الجمالي والفجائعي أكسب أجواء النص المتخيلة صفة الواقعية؛ فالقارئ وهو يتابع مسار الأحداث يشعر أنه داخل الواقع أكثر من شعوره أنه في الخيال: إنها قوة هذا النص وميزته السرديتان. يمكن لنا أن نلاحظ من خلال هذه الرواية أن لحضور الموت دلالاته العميقة، يأخذ قيمة مضافة إذ لا يعني فقط نهاية شخصية روائية ما ولكن أيضا، وهي مفارقة، هذا الإسهام في بعث الحياة رغم الفجيعة والمحن؛ بما يعني أن الحياة مستمرة. إنها دلالات تصنع حيزها الفلسفي من طرح سؤال ثنائية الانبعاث والفناء. إن "الموت في وهران" إذ تصف مدينة، شهدت الموت، تقول محنة وطن طالته يد الخيانة والإرهاب. وبرغم ذلك فالرواية تسرب نور الحب شعاعا ينير طريق هواري وبختة. تحمل رواية "الموت في وهران" أسرارا وأخبارا ومفاجآت، تجعل القارئ، لحبكتها، يتابع وقائعها عبر كل فصولها حتى النهاية، لأنها منسوجة بخيوط سحرية تربط ما سبق بما يأتي أو سيأتي: إنها تقنية حاك تفاصيلها الحبيب السائح بذكاء فائق. أخيرا، هل "الموت في وهران" تؤرخ لمحنة الجزائر في زمن العشرية السوداء وتشهد على اغتيال الأشياء الجميلة واندثار معالم الذاكرة، وهما أمران لا يعوضان بثمن، أم هي تجهر بالمسكوت عنه بطريقة تخييلية تجعل القارئ يستلذ متعة الكشف والاكتشاف رغم الوجع؟. وعلى كل، فإن "الموت في وهران" حياة للإبداع.