الدلّالات.. تاجرات بعباءة الماضي احتضنتهن أرصفة سيدي الجليس يعرفن باسم خالتي « فلانة»، علاقتهن بقسنطينة القديمة لا تقتصر على الأزقة، أين يعرضن بضاعتهن و لا على الجدران حيث يعلقنها، بل هي علاقة عميقة تجمعهن بكل شخص في الحي، بكل ربة بيت و تاجر و حرفي، بضاعتهن عبارة عن قطع ملابس مستعملة و الكثير من الأخبار و الأحاديث، هن الدلالات أول تجسيد لمعنى المرأة التاجرة في قسنطينة، و قد هجرن اليوم شوارعها و أحياءها الأخرى ،و قرروا الاستقرار بين أحضان شارع ولدن فيه وهو سيدي الجليس. بين أزقة المدينة القديمة، تجد كل ما اعتقدت يوما بأنه انقرض من حرف و مهن، و السبب هو أنها ولدت هناك في الأصل، صباحا عندما تفتح المدينة عيونها لتعانق الحياة و تستشعر دفء البشر، تصل نسوة أعمارهن بين 40 إلى 50سنة، في أياديهن حقائب قديمة، بها ما يعتبرنه بضاعة، تختار كل واحدة منهن ركنها المعتاد و تفرد على أرضه ما في حقيبتها من ملابس و أحذية و تعلق بعض الأشياء الأخرى على جدران المنازل القديمة، و تجلس قبالتها، في انتظار زبونة أو زبون قد يكون طبيبا، كما أخبرتنا خالتي حدة، سيدة في عقدها الخامس، قالت لنا بأنها قضت قرابة ثلاثين عاما من عمرها في هذا الزقاق، أين تعرض بعض قطع الملابس التي علمنا منها، بأنها تحصل عليها كصدقات أو تبرعات من معارفها، لتعيد بيعها مقابل مبالغ بسيطة تتراوح بين 50 دج و 1000دج، قيمة قالت بأنها مباركة، و تكفيها لتوفير لقمة العيش، حتى أنها استطاعت بفضل هذه الحرفة، أن تعيل أسرتها و ترعى أبناءها إلى أن أصبحوا رجالا و نساء. أحذية إيطالية و ملابس فرنسية ! ليس بعيدا عن خالتي حدة، كانت سيدة أخرى تهم بعرض محتويات حقيبتها، أحذية إيطالية و قطع ملابس فرنسية، هكذا قالت لنا ، وهي تحاول إقناعنا باقتناء حذاء معين، كانت بضاعتها تبدو جديدة وفي حال أفضل مما عرضته علينا سابقتها، سألناها عن مصدرها، فقالت بأنها تتعامل مع بعض محلات الشيفون إذ تعيد بيع ما يزيد عن حاجتهم و لا يتمكنون من تسويقه، حيث تشتريه هي بأسعار بخسة و تعرضه مجددا للبيع. و أضافت بأنها تحصل على بعض القطع المناسبة من معارفها و من عائلات قالت بأنها ميسورة، و ما يقدمونه لها من ملابس كثيرا ما يعود عليها بالفائدة، والدليل هو أنها كانت تعرض حذاء للبيع مقابل 600 دج، وهو سعر لا يختلف كثيرا عما يطلبه باعة الشيفون في الأسواق الشعبية. تجاوزتها الحضارة وأعادها الفقر خلال تواجدنا بالمكان، كان هناك أربع دلالات يعرضن بضاعتهن، أخبرننا بأنهن الوحيدات اللائي قصدن الشارع اليوم، نظرا لرداءة الأحوال الجوية، بينما كان الحي يعج في أغلب الأحيان بالدلالات وعددهن حوالي 20 دلالة، معظمهن لسن من قسنطينة، بل قدمن من فرجيوة و العلمة و برج بوعريريج، و أوصلهن الفقر إلى هذا المكان، كما عبرت خالتي حدة، فالحرفة ، «تدهورت ولم تعد مربحة كسابق عهدها، لأن الملابس الصينية و التركية باتت في متناول الجميع»، على حد تعبيرها، كما «أن الشيفون عوض زبائننا عن بضاعتنا منذ سنوات عديدة، لذلك فالدلالات القسنطينيات اختفين، بعضهن فارقن الحياة و الأخريات تقاعدن عن الحرفة، و من يعملن اليوم معظمهن من خارج المدينة، انتقلن مؤخرا للإقامة في الأحياء الشعبية العتيقة، و التحقن بالشارع للتجارة هربا من الفقر»، حسبها. خالتي خيرة الدلالة قالت لنا بأنها من مدينة برج بوعريريج، لكنها تقيم بحي القماص بقسنطينة منذ 30 عاما، أخبرتنا بأنها لم تركز يوما على بيع الملابس، بل كانت تحترف بيع الذهب و تحديدا « اللويز» الذي تشتريه من نساء المدينة أو المدن الأخرى، أما رأسمالها، فقالت لنا، بأنها جمعته من بيع بيض دجاجاتها و تحضير العجائن التقليدية و بيعها، أما اليوم، حسبها، فالوضع أصبح صعبا و تجارتها تراجعت، لدرجة أنها أصبحت تعرض فقط مجوهرات مقلدة من البلاكيور و الفضة. علمنا من محدثتنا، بأنها وجميع دلالات سيدي الجليس، يقصدن كذلك الأسواق الشعبية بقسنطينة و الولايات القريبة، لبيع بضاعتهن أو الحصول على بضاعة جديدة، لذلك فهن كثيرات التنقل و لهن علاقات عديدة مع أناس من مختلف الشرائح، وهو ما يجعلهن حكيمات في نظر البعض، إذ تقصدهن نسوة المدينة القديمة، للسؤال عن أمور كثيرة تتعلق بالأطباء و المعالجين التقليديين و يطرحن عليهن قضايا تتعلق بالعقم و تأخر الزواج، وهو سلوك قديم، قالت لنا بأنه يعود لسنوات عديدة ماضية، عندما كانت الدلالة جزءا من الحياة الاجتماعية في المدينة القديمة، وكانت تعتبر همزة وصل بين النساء و خبيرة في أمور الزواج و الخطبة و ما إلى ذلك، أما اليوم، حسبها، فالدلالة تعاني من نظرة اجتماعية قاسية، لا تفرق بينها وبين المتسولة، خصوصا إذا عرضت بضاعتها بعيدا عن وسط المدينة، لذلك يعتبر سيدي الجليس ملاذا آمنا و ركنا يعبق بذكريات الزمن الجميل.