سيدات يعملن صيفا لضمان "مصروف العام" ألغين منذ سنوات طويلة من قاموسهن ويومياتهن مصطلحات العطلة والراحة والمصيف والترفيه لأن الصيف يعني بالنسبة اليهن ذروة النشاط وتكريس كل الوقت والجهد من أجل تحضير أكبر كمية ممكنة من الكسكسي و"التريدة" و"الشخشوخة " ثم بيعها وجمع ماتيسر من النقود لاعالة أبنائهن وتغطية بعض مصاريف المناسبات الدينية والاجتماعية المتتالية.. فبعد رمضان وعيد الفطر يكون الدخول المدرسي بالمرصاد. انهن سيدات "حراير" من مختلف الفئات العمرية والشرائح الاجتماعية يشمرن على سواعدهن ويستجمعن قواهن منذ نهاية الربيع لتحضير شتى انواع العجائن التقليدية وربما بعض الحلويات في بيوتهن ثم يبعنها ولن يتوقفن عن هذا العمل المرهق الا في بدايات الشهر الفضيل. والقاسم المشترك بينهن الآن هو تكثيف "الانتاج" الى أقصى حد لأن هذه العطلة هي الأقصر منذ سنوات طويلة ولابد من "استثمار" حرارتها في التجفيف السريع للعجائن قبل تسويقها ومنافسة "شطحات" الزئبق فالمعروف ان هذا الموسم هو أيضا موسم الأعراس والمناسبات الاجتماعية المختلفة التي لا تخلو موائدها وولائمها من الأطباق التقليدية الشهيرة وفي مقدمتها ""الشخشوخة" و"لمحور" وأيضا "لمشلوش" و"الرفيس" والحلويات المتنوعة. وتوجد بمختلف أحياء المدينة "معلمات" مشهورات بتلبية طلبيات اصحاب الأفراح حسب معايير الكمية والنوعية وأيضا السعر المقبول الذي يتحدى المنافسة المحتدمة هذه الأيام الحارة. كما لا تكتمل التحضيرات لاستقبال شهر الصيام الا باعداد او اقتناء لمن لا يستطعن الى ذلك سبيلا "عولة" وفيرة من العجائن التقليدية التي يزداد الاقبال على تناولها في وجبات الافطار وخاصة خلال ما يعرف ب "النفقة" في منتصف رمضان وليلة القدر ويوم العيد ولدى استقبال ضيوف أعزاء. وحبذا لو تغطي هذه "العولة" المفضلة باقي شهور السنة لارضاء أذواق أفراد العائلة - وبالرغم من توفر الكثير من العجائن التقليدية المصنعة والمعلبة او المحفوظة في اكياس في رفوف المحلات والمساحات الكبرى الا ان أغلب ربات البيوت يفضلن تلك التي تحضرها "الحراير" في بيوتهن بأناملهن الذهبية وفق الطرق التقليدية الموروثة عن الأمهات والجدات - وبهذا الخصوص قالت نادية، معلمة : كانت أمي توفر لي كافة احتياجات أسرتي من النعمة والشخشوخة وحتى التريدة... لكن بعد تقدمها في السن واصابتها بالسكري ومرض القلب لم تعد تستطيع ذلك. فكرت في حل لأن زوجي وابنائي يعشقون الأطباق التقليدية وأنا لا أجيد تحضير العجائن ووقتي ضيق ولا يسمح لي بتعلم أسرارها في البداية جربت الكسكسي الذي يتم تحضيره بآلات خاصة بالمصانع وصدمت بنوعيته الرديئة ثم جربت الشخشوخة فكانت الصدمة اكبر لأنها تحولت بمجرد وضعها في "الكسكاس" الى عجينة منفرة.. ونصحتني زميلتي في العمل بتجريب عجائن خالتي الزهرة فوجدت ضالتي خاصة بعد أن زرت بيتها وتأكدت بأنها تحترم قواعد النظافة في كل مراحل عملها". واشتكت العديد من السيدات الأخريات اللواتي تحدثنا اليهن من نوعية الكسكسي الذي "تفتله" على حد تعبيرهن الآلات في المصانع وكذا الشخشوخة التي تباع معلبة او داخل أكياس مختومة وموسومة... بل أن أم شمس أكدت بان بعض الأنواع لا يحترم صانعوها قواعد النظافة مضيفة : "لقد صدمت لاحتواء الشخشوخة التي اشتريتها جاهزة للطهي داخل كيس يحمل وسم شركة خاصة بولاية قسنطينة على كمية من الشعر، مما جعلني استجمع شجاعتي وارادتي وألجأ الى احدى "الفحلات" اللواتي يحترفن تحضيرا لعجائن التقليدية على أصولها ويسترزقن منها..." "حراير" يقتدين بالنمل! الكثيرات يمارسن هذه الحرفة سواء بشكل موسمي او دائم من أجل الاسترزاق، حيث تؤكد عائشة ربة بيت في العقد الخامس من عمرها : "لم أتوقف عن "الفتيل" منذ حوالي شهر من أجل تلبية طلبيات زبوناتي الوفيات وجميعهن موظفات تعرفت عليهن عندما كنت أسكن في حي المنشار الشعبي، وبعد انتقالي الى المدينةالجديدة، لحقن بي ليقدمن طلباتهن فقد أصبحت علاقتي بهن شبه صداقة". وأضافت محدثتنا بأن حرفتها مرهقة وتجعلها تعاني باستمرار من آلام في الظهر وارتفاع ضغط الدم لكنها مرغمة على مضاعفة العمل حتى تتمكن من ادخار ثمن كسوة العيد وبعض مصاريف الدخول المدرسي لأبنائها، فزوجها عامل بسيط ودخله لا يكفي لتلبية كل احتياجات أبنائهما الستة خاصة وأن اثتين منهم يدرسان بالجامعة. أما سعيدة، فهي أرملة في منتصف العقد الرابع، وأم لأربعة أبناء صغار، قالت بمرارة: "بعد رحيل زوجي خرجت من بيت أسلافي بخفي حنين، فقد كان يعمل معهم وعندما تعرض لحادث مميت، استولوا على كل شيء، وجدت نفسي دون عائل أو دخل أو مأوى قار مع أربعة صغار، مما جعلني أقصد منزل والدتي العجوز وأقيم معها. لأنني لا أحمل أية شهادة ولا أجيد أية حرفة، فكرت في العمل كخادمة أو مربية أطفال، ولم أستطع فقررت أن أشتري السميد، وأحضر في البيت أغرفة كسرة، وبعض العجائن التقليدية وأعرضها على تجار الحي.. لم يكن الأمر سهلا في البداية، لكن سرعان ما نالت سلعتي الاستحسان من الزبونات، وزادت الطلبيات، أغتنم هذه العطلة الصيفية لتحضير كميات كبيرة من الكسكسي والشخشوخة بمساعدة جارتي وابنتي ووالدتي.. عملنا مرهق، لكنه مصدر رزقنا ويقينا من الجوع ومد الكف .. والحمد لله". كانت تلتحف ملاءة سوداء وتخفي ملامحها تحت لثام طويل، عندما دخلت بخطى وئيدة الى مخبزة، وأخرجت ببطء من قفتها كمية من "تريدة الطاجين' و"المسمنات" و"لبراج" ومجموعة من أرغفة الكسرة، سالها التاجر الشاب: "هذه بقية الطبية، هل التزمت بما قلت لك؟ " ردت بالايجاب ثم طأطأت رأسها وخرجت مسرعة، فعلق الشاب أمام زبائنه: "لولا أنها تربي أيتاما لاستغنيت عن التعامل معها، أغلب التجار في هذا الحي يتعاطفون معها لأنها أرملة أحد جيراننا فيشترون ما تحضره من عجائن تقليدية أو حلويات مهما كانت نوعيتها". ويوازي خجل هذه السيدة حماس وجرأة (ما فاطمة) التي تتحدى أعوام عمرها الستين ومختلف أمراض الشيخوخة التي تعاني منها بتكثيف نشاطها في الصيف، وتقول: "أنا كالنملة أدخر للشتاء ما أجمعه في الصيف" (تضحك) وهكذا يتحول منزلها من منتصف الربيع الى غاية منتصف الصيف وبالضبط عشية رمضان الى ورشة كبيرة لتحضير الكسكسي والشخشوخة والتريدة وأحيانا مختلف أصناف الحلويات التقليدية والعصرية، فأغلب زبائنها من العائلات التي تحضر للاحفال بنجاح أو ختان أو زواج ابنائها أو التجار ولو لا مساعدة بناتها لما استطاعت تلبية كل الطلبيات التي تنهال عليها هذه الأيام الحارة وتحمد الله باستمرار لأنها ورثت عن والديها منزلا واسعا يسهل مهامها، انها سيدة مطلقة، اعتمدت على هذه الحرفة اليدوية لتوفير لقمة العيش وتربية وتعليم ستة أبناء وبنات وهي فخورة بذلك، فخادم القوم سيدهم.