وجهت بوصلة السرد والكتابة نحو الجنوب لأني مهووس ببيئتي الصحراوية في هذا الحوار، يتحدث الكاتب والروائي الصدّيق حاج أحمد (الزيواني)، عن كتابه الجديد «رحلاتي لبلاد السافانا: النيجر، مالي، السودان)، الصادر عن منشورات دار الوطن اليوم، وعن رحلاته وتنقلاته التي هي عبارة عن تمرينات أولية لكتابات روائية. مُستعرضًا أهم ما جاء في تفاصيل رحلاته الأفريقية، ومدى اِفتتانه ببيئة دول وجغرافيا الساحل الإفريقي، وسرّ متاهته الجنوبية، وغرامه بعوالمها وطقوسها وتاريخها ومختلف أحداثها وأُناسها. وشغفه في مُمارسة فن الاِكتشاف. مُشيراً في هذا السياق أنّ توجيه بوصلة السرد والكتابة، نحو الجنوب والأدغال، يعتبره طبيعيًا، لشخص مهووس ببيئته الصحراوية هذا من جهة جغرافية الصحراء الجزائرية، التي يسكنها وتسكنه، أمّا بالنسبة لبيئة دول الساحل، وإفريقيا جنوب الصحراء الكُبرى، فإنّ الروابط التاريخية، قديمة ومنغمسة في التاريخ، لذلك من الطبيعي -حسب قوله-، أن تكون تلك الرؤية الجنوبية في رؤيته وخياله الواعي. كما يتحدث صاحب «كاماراد» عن أدب الرحلة وأدب اليوميات، وعن تأثيث نصوصه الروائية برحلاته ويومياته، وعن اِشتغاله على تيمات سؤال الهجرة غير الشرعية، والمنفى، والساحل الأفريقي على وجه العموم. وعن شؤون أخرى ذات صلة نكتشفها في هذا الحوار. حاورته/ نوّارة لحرش بعيدا عن نظرة التعالي والدونية، التي أشرتَ إليها في كتابك الأخير «رحلاتي لبلاد السافانا». لماذا برأيك السرديات العربية غفلت/وتغفل الجوار الأفريقي، وهو جوار يزخر بعلاقات وأحداث تاريخية كثيرة وبمصائر مُتشابهة، وحتّى ببيئة نتقاسم فيها الهم الأفريقي المشترك؟ * الصدّيق حاج أحمد: لطالما حيّرني هذا السؤال ولا يزال.. فبالرغم من حزام الجوار الإفريقي للعالم العربي، بداية من اليمن والصومال شرقًا، حتى المغرب وموريتانيا غربًا، مرورا بمصر، وليبيا، وتونس، والجزائر، وهي حالة ملتبسة من عدم الاِلتفات، بوعي أو غيره، مع أنّ الروابط التاريخية والثقافية، تُعزّز تلك الروابط الجغرافية المشتركة، لاسيما في الجنوب من تلك الدول، كاليمن، وليبيا، والجزائر، وموريتانبا، فمثلاً بالنسبة للجزائر، نجد أنّ الجنوب (ولاية أدرار وتمنراست)، تتشارك مع الجوار الإفريقي في بعض إثنياتها وأعراقها، لونيًا وثقافيًا، ففي ولاية أدرار، ومدينة المنيعة من ولاية غرداية مثلاً، هناك رقصة شعبية تُسمى (قرقابو)، يُقنقن فيها الحديد، تكاد ملامحها، واهتزاز الجسد فيها، وكذا تمثلات لغة الجسد، تُشبه تمامًا، الرقصات الشعبية الإفريقية، الموجودة في الأدغال، كما أنّ هناك رقصة (الديوان)، الموجودة بولاية بشار، هي الأخرى، ذات أصول إفريقية، بالإضافة إلى حجم الرعايا الأفارقة بهاتين الولايتين (أدرار وتمنراست)، فالزائر الجزائري من الشمال لتمنراست، قد يدخل في حيرة، عندما تطأ قدمه هذه الولاية أوّل مرّة، من فرط حضور الإنسان الإفريقي، الأبيض والأسود. بيد أنّه على مستوى السرديات العربية، فقد تفطّن الروائي الليبي، إبراهيم الكوني باكرا، لتوظيف وتأثيث رواياته، بالثقافة الإفريقية، لاسيما عند الطوارق، وهو ما درج عليه كاتب السطور، في رواية «كاماراد»، و»رحلاتي لبلاد السافانا». بين التدوين الرّحلي وأدب الرحلة وأدب اليوميات، قواسم مشتركة، لكنّها تختلف في طريقة التناول والكتابة. وما هو منتشر ومنشور من كتابات، ربّما ينتمي أكثر إلى التدوين الرّحلي واليوميات أكثر منه أدب رحلة. لماذا برأيك؟ uالصدّيق حاج أحمد: طبعًا المذكرات واليوميات المرتبطة بالتدوين التقريري، تختلف عن أدب الرحلة وأدب اليوميات، فالتدوين والتقرير الإخباري، لا يحتاج للصناعة السردية، المرتبطة بالفنيات والتقنيات، وإن كان يتشارك مع أدب هذه الكتابات، في الصورة المشهدية للمكان والزمان والشخوص؛ لكن يتفارقان في اِعتماد أدب الرحلة، على الجانب الفني والتصنيع السردي، كفيض اللّغة والأسلوب، والوصف الدقيق للمكان والشخوص، وكذا تقنيات الاِستذكار، والاِستباق، وغيرها من التقنيات السردية، الموظّفة في الكتابة السردية الروائية. التدوين الرّحلي عادة يكون تقريريًا دون مراعاة للجانب الفني. وهذا فيه بعض الاستسهال في سرد تفاصيل الرحلة. في حين كتابة الرحلة أدبيًا تكون مشحونة باللّغة والسرد الجميل والتقاط أدق التفاصيل بفن وإمتاع. هل يمكن القول هنا أنّ الأديب كاتب الرحلة يمتلك مقومات الإقناع والإدهاش الفني أكثر من المُدون الّذي لا يملك أدوات تسريد الرحلة؟ * الصدّيق حاج أحمد:بطبيعة الحال.. الأديب يملك من الأدوات اللغوية الأسلوبية، والفنية التقنية، ما يجعله يُخرج الرحلة؛ كفيلم سينمائي، مُلتقطًا لتفاصيل مسار الرحلة، بكلّ حيثياتها الكبيرة والصغيرة، مع البراعة في دفع نفس القارئ، لمواصلة القراءة، والشوق لإتمامها، بينما المدوّن، أو الكاتب التقريري، فعادة ما يهتم بالسطحي البارز، دون مراعاة الهوامش والحواشي من الرحلة، والتي تكون في غاية الأهمية، لاِستكمال الصورة العامة لدى المتلقي. حين يكتب الكاتب مُتخيلا فإنّه يتخيّل ذوات الآخرين المتخيلين من منظور ذاته الواعية بالواقع أدب الرحلة يلتقي مع الرواية في الكثير من التفاصيل، إذ يشتركان في بعض التوظيفات، مثل السيرة، والتفاصيل اليوميّة الحياتية، والحكاية، والمعرفة، والمكان، والأحداث وغيرها؟ إلى أي حد أفادتك رحلاتك في تأثيث نصوصك الروائية، وهل يمكن القول أنّها كانت زادك في الكتابة أكثر من مَلكة أو موهبة أو اشتغال الخيال والتخييل؟ * الصدّيق حاج أحمد:الإجابة.. ستكون بالمقلوب بالنسبة لتجربتي المتواضعة، أي إلى أي حدّ أفادتك كتابة الرواية في الرحلة؟ لأنّ الكتابة الروائية عندي، أسبق عن كتابة الرحلة، وبالتالي فإنّ التجربة الكتابية الأخيرة، اِستفادت من الأولى، على مستوى الخبرة التمرينية السردية، سواء تعلّق الأمر، بالتجريب، وهو محاولة تطويع تقنيات غير مألوفة، أو حتى على مستوى اللّغة، أو المكان، والزمان؛ لكن يظل المكان هو المحور بالنسبة للرحلة، فإن كان في الرواية مِمَا لابدّ منه، ففي الرحلة، هو مركز المركز، نفس الشيء بالنسبة للوصف. يبقى التخييل ينفرد بالرواية دون الرحلة، مِمَا يمنح الكاتب رؤية أعمق في الكتابة، وتحرّرا واسعًا، يجعله مُطلقًا غير مُقيّد، أمّا في الرحلة، المرتهنة بمسارها، ومكانها، وصاحبها، فإنّ الكاتب يظل محدوداً بمسار مُعين، له نقطة البداية والنهاية. غير بيئة الاِنتماء. ما سرّ متاهتك الجنوبية. غرامك بعوالمها وطقوسها وتاريخها ومختلف أحداثها وأُناسها. شغفك بجغرافيا الساحل الأفريقي ومُمارسة فن الاِكتشاف....؟ uالصدّيق حاج أحمد: توجيه بوصلة السرد والكتابة، نحو الجنوب والأدغال، أعتبره طبيعيًا، لشخص مهووس ببيئته الصحراوية هذا من جهة جغرافية الصحراء الجزائرية، التي أسكنها وتسكنني، أمّا بالنسبة لبيئة دول الساحل، وإفريقيا جنوب الصحراء الكُبرى، فإنّ الروابط التاريخية، بين منطقتنا (توات)، والسودان الغربي (إفريقيا الغربية) قديمة ومنغمسة في التاريخ، فلا تكاد تقرأ كتابًا من كُتب الرحلات بين الشمال وإفريقيا، إلاّ وتقف فيه على عبور القوافل التجارية قديمًا، ب(توات) وحاضرتها (تمنطيط)، لذلك من الطبيعي كما قلت، أن تكون تلك الرؤية الجنوبية في رؤيتي وخيالي الواعي، كما أنّي فتحت عيني، على تُجار التمر التواتي، نحو (غاو) المالية، و(طاوة) بدولة النيجر، بحيث يبادلون التمر بالأغنام، المعروفة ب(أسيداون). في هذا الكِتاب «رحلاتي لبلاد السافانا». حرثتَ في أرضٍ شبه مهجورة سرديًا على مستوى السرديات العربية، ما الّذي قادك إلى هذا الحرث –بعيدا عن توظيفات روائية أو دراسية-. هل هي أواصر الجوار، أم الشغف بهذه البيئات الغير مطروقة سرديًا وفنيًا؟ أم هذا الإهمال لهذه العوالم.. ماذا تحديدا؟ * الصدّيق حاج أحمد:كما ذكرت سالفًا، فإنّ اِفتتاني وغرامي ببيئة دول الساحل الإفريقي، قد أُعزيه لسبب آخر ربّما، وأخاله صحيحًا، فقد سافرت إلى شمال مالي، سنة 2004، بغرض البحث عن تاريخ شخصية علمية كنتية، كانت بصحراء (تيلمسي) المالية، في إطار رسالة الماجستير، وقد ذكرتها في رحلتي لمالي، من خلال كِتاب (رحلاتي لبلاد السافانا)، أعتقد أنّ هذه الرحلة الأولى لتلك الربوع، هي المُحرّك الأساس، لكلّ ما فاض في خاطري، ودعاني للكتابة، عن تلك المناطق، رواية، أو رحلة، أو اِهتمامًا بشكلٍ عام. كانت مساحة تسريد المساوئ والنقائص والصِعاب والمعاناة في فضاء الساحل الإفريقي أكثر من مساحة تسريد جمال الرحلة. أو الجمال الّذي عادةً ما يُلفتْ كاتب ومُدون الرحلة. كانت هناك بعض القسوة في التسريد. قسوة الواقع وقسوة الحقيقة. uالصدّيق حاج أحمد: أكيد.. لكن ليس بصورة الاِستهزاء، أو الاِحتقار، وإنّما من منظور، التعاطف لكشف الهامش وتعريته، فبمجرد نزولك من الطائرة بمطار (نيامي)، تكتشف مدى تواضع المرافق، وبساطتها، مطار دولي بعاصمة دولة، بحجم مطار داخلي من بلادي، وبمجرد ما يغادر هذا الاِستغراب الأولي بالمطار، وتهم بالركوب نحو المدينة بالطاكسي المهترئ، ستصدم ثانية، من حجم القمامة، الرابضة على جنبات الطريق بين المطار والعاصمة، أمّا عن البؤس المستشري في كلّ مكان، كلّ هذا وغيره، يحرّضك للتعاطف الإنساني، ولكشف معاناة الإنسان في هذه الجغرافيا المنسية من العالم. في الكِتاب أشرتَ في أكثر من مرّة إلى أنّ بعض مفاصله موجودة في رواية «كاماراد»، لماذا تحيل القارئ إلى عمل آخر وهو يقرأ في عمل معين. ألا تُشوش عليه بهذه الإحالات أو تذكيره في كلّ مرّة بأنّ هذه تفصيلات موجودة في رواية كذا...؟ * الصدّيق حاج أحمد: في الكتابة الإبداعية، لا يوجد قانون ثابت، فبحكم أنّ رواية «كاماراد»، عالجت تيمتها مساحة كبيرة من دولة النيجر، فمن الطبيعي عندما أتحدّث عن رحلتي للنيجر، أن يأتي في معرض الحديث عن رواية «كاماراد»، لكوني سافرت في تلك الرحلة، لأجل جمع معلومات عن المجتمع النيجيري، لكتابة «كاماراد»، وبالتالي فإنّ الرحلة، أستطيع القول، إنّها أتت كحاشية على من الرواية، إن جار هذا التوصيف. كأنّ رحلاتك وتنقلاتك ما هي إلاّ تمرينات أولية (وأحيانا ضرورية) لكتابات روائية دائماً؟ * الصدّيق حاج أحمد:هذا صحيح.. فعادة أكتب بين رواياتي كتابات سردية منشورة، الغرض منها التمرين والاِستراحة، مع التمسك بوصل الكتابة، فكتابة الرواية، ليس سهلاً كما يتصور البعض، فعندما ينتهي الكاتب من كتابة رواية، يشعر وكأنّه أنهى قتالا ضاريًا، لذلك لابدّ له من اِستراحة. رحلات شاقة إلى الساحل الإفريقي من أجل تأثيث نص. هذا ما كان أيضا في زيارتك للنيجر في محاولة لمعرفة تفاصيل تهريب الأفارقة نحو مدينة تمنراست. فمن أجل صناعة رواية وتأثيث تخييل نص لصناعة رواية تعالج تيمة هجرة الأفارقة نحو أوروبا. سافرت وشقيت وتعبت. هل تحتاج تيمة ما لأن يضع الكاتب نفسه في فوهة مغامرات قاسية وصعبة؟ كما حدث في رواية كاماراد؟ * الصدّيق حاج أحمد:قلتُ في حوار سابق لجريدة مشرقية، قبل عامين، صرّحت بالإجابة على نفس السؤال، وقلتُ إنّ السفر إلى فضاءات النص، ليس ضروريًا بالمعنى المُطلق؛ لكنّي اِخترت السفر لمواطن التخييل، من أجل اِختيار زوايا الرؤية والتقاطها ذاتيًا، دون الاِعتماد على زوايا كتابية أو صور، اختارها أصحابها، فما أراه ذاتيًا للمكان وللبيئة بصفة عامة، يختلف عن رؤية غيري، فهناك تفاصيل صغيرة، في العادة لا يذكرها الآخرون، ولا يصورونها، وهي بالغة الأهمية في التأثيث السردي والطبخ الروائي. الكاتب يحاول صناعة عالم مواز لِمَا نعيشه واقعيًا فيهدم الواقع ويُعيد صناعته ببراعته حين يُقامر الكاتب بحياته من أجل نص. هل ترى أنّ النص يوازي الحياة المُتخيلة؟ أو الحياة المسرودة في رواية؟ * الصدّيق حاج أحمد:حين يكتب الكاتب متخيلا، فإنّه يتخيّل ذوات الآخرين المتخيلين، من منظور ذاته الواعية بالواقع، لذلك فهو يحاول صناعة عالم مواز لِمَا نعيشه واقعيًا، فيهدم هذا الواقع، ويُعيد صناعته ببراعته، حتى يبدو لنا وكأنّه واقعًا، لذلك تجد عديد القُراء، لاسيما البسطاء منهم، يتصورون الروايات، إنّما هي سيرة ذاتية للكاتب. تشتغل على تيمات سؤال الهجرة غير الشرعية، والمنفى، والساحل الأفريقي على وجه العموم. بهارات ساخنة غير مطروقة في السرد العربي كما يجب. هل ستتفرغ لهذه التيمات أم ستعزف على التنويع أكثر وتطرق موضوعات أخرى؟ * الصدّيق حاج أحمد: سأظل مُتمسّكًا بمشروعي السردي، الّذي اخترعه، ذلك المُتمثل في (الصحراء الجزائرية ودول الساحل الإفريقي)، لذلك فإنّ روايتي الثالثة، التي اشتغل عليها الآن، لا تشذّ عن هذا المنحى المرسوم. في القسم المخصص للخرطوم. كأنّك كتبت تفاصيل الرحلة وأحداثها ويومياتها بقليل من الاِهتمام وبنوع من تسريع السرد أو تسجيل رحلة وفقط، وهذا عكس طريقة تناولك وكتابتك لرحلة مالي أو النيجر. لماذا، هل يرجع هذا لقصر رحلة الخرطوم مثلا؟ * الصدّيق حاج أحمد: نعم.. في كتابي «رحلاتي لبلاد السافانا»، جاءت الرحلة الثالثة للخرطوم قصيرة، مُقارنة برحلتي النيجرومالي، يُبرّر هذا الاِقتصاد، المدة القصيرة التي قضيتها بالخرطوم (ثلاثة أيّام)، ليس معقولا أن يكون لك نفسٌ كتابي في رحلة مدتها قصيرة، مثل رحلة طويلة، فثلاثة أيّام التي قضيتها بالخرطوم، لو أسقطنا منها ساعات النوم بالفندق، ستجد ساعات قليلات، قد بقيت لاِكتشاف المجتمع السوداني الهادئ الجميل. هل من رواية جديدة في الأفق وهل بنفس التيمات والهواجس والهموم الأفريقية؟ * الصدّيق حاج أحمد:ستكون بإذن الله.. لقد قطعت شوطًا كبيراً فيها؛ لكن تداعيات كورونا خلال هذه الشهور، ألجم مزاجي الكتابي، فلو رُفِع الحجر وعاد المزاج، قد أنهيها نهاية هذا الصيف. أمّا بخصوص تيمتها، فكما ذكرت، ستظل ضمن المشروع السردي المذكور.