النقاش هو دائمًا مسألة صحية لكن اِفتعال القضايا هو المشكلة يرى الكاتب والروائي بشير مفتي أنّ النقاش في الوسط الثقافي والأدبي هو دائمًا مسألة صحية لكن اِفتعال القضايا هو المشكلة، فالمسائل التي تُطرح للنقاش -حسب قوله- ليست دائمًا بريئة فهناك خلفيات يجب معرفتها ومن هنا فالأدب لا يمكنه أن يُجيب على الأسئلة التي تُطرح من الإعلام خاصةً لأنّ وظيفته هي الأسئلة بالدرجة الأولى. مؤكداً في هذا السياق أنّ ما يتم طرحه من نقاشات أكثرها مهاترات وسحابات عابرة وهي للأسف -حسب قوله دائمًا- تسكت عن مواضيع أهم ونقاشات أخطر وقضايا فاعلة بالفعل. مفتي، تحدث أيضا في هذا الحوار، عن مفهومه الشخصي للرواية ووظيفتها، وعن من هو الروائي وغياب القارئ الذكي. كما تحدث عن شخصياته الاِنهزامية السوداوية، وهنا قال بأنّه عن قصد يختار شخصيات مُثقفة ومهزومة. مضيفاً بأنّها شخصيات ورقية مأخوذة من الحياة في لحظات هزيمة وسقوط وهي تفكر في ذلك كله علها تجد نقطة ضوء. علها تعثر على سبيل الخلاص. * حاورته/نوّارة لحرش الروايات الجميلة عادةً ما تكون حسب قراءاتي روايات سلبية وأبطالها متشائمون لنبدأ من مفهومك الشخصي والخاص للرواية. فماذا تقول؟ بشير مفتي: أقول بأنّ الرواية هي الجنس القائم على مُمكنات مُتعدّدة تُتيحُ للكاتب أن يدخل في لعبة مفتوحة تتأسس على الغوص في متاهات التخييل وإعادة قول الواقع، فالرواية كما أنظر لها من زاويتي الخاصة هي كتابة مفتوحة، أي تتداخل فيها فنون وأنواع لا حصر لها من التعابير وهي بهذا فقط تعطيني الحرية وتدفعني إلى المواجهة. صحيح أنّني أميل إلى توجه مُعين في الكتابة وعائلة معينة من الروائيين كما هو عادة كلّ الكُتّاب تقريبًا فهناك من يهتم بالشكل والشكلانية وبالموضوعية كما في رواية الوصف التي قدمت لنا روائيين من طراز «آلان روب غرييه» و»ناتالي ساروت» و»بيتور» ومن جاراهم عندنا وهناك من يُحيك روايته ببراعة شعرية ولُغة فذّة ويحكي حكاية جميلة وجمالها طبعًا لا ينبع من إيجابية القصة أو أبطال الحكاية، فالروايات الجميلة عادةً ما تكون حسب قراءاتي روايات سلبية وأبطالها متشائمون وهي تحكي عن التراجيديا أكثر مِمَّا تحكي عن الكوميدي المُضحك، فهي أقرب للجد منها للهزل حتّى لو اِستعملته مثلما يفعل «كافكا» أو «كونديرا»، وهناك من يستهويه التاريخ والملاحم والبطولات فيكتب ضمن عائلة الروّاة التاريخيين من أمثال «دوماس» أو «الحرب والسلم» لتولوستوي وهناك من يقدم عوالم نفسية وشذرات روحية أو قطعا صوفية مُتيمنًا بهذا أو ذاك، وأنا من جهتي أميل لعائلة معينة ولا ألوم أحداً في أن يميل لعائلات أخرى. يبقى المستوى الفني والجمالي الّذي نكتب به هو المعيار المُحدّد لأهمية النصوص. لهذا لا أنزعج عندما يتناول البعض القضايا السياسية أو حتّى فكرة الاِلتزام الأدبي بالقضايا العامة، لا تزعجني إن وُفِقَ الكاتب في قولها جماليًا والدفاع عنها أدبيًا فهي ستكون أكثر تأثيراً وأبلغ وقعًا على وجدان النّاس وعقولهم من الدفاع عن الشِعارات والأوهام التي تُخدر وتُنفر وتكذب أكثر مِمَّا تقول الحقيقة وأتصوّر ماركيز على حق عندما أخبرنا بأنّه إذا أردنا أن نُدافع على قضية كبيرة فيجب أن نكتب رواية جميلة. هذا هو المُبتغى الأساسي أمّا غير ذلك فيذهب جفاء. ومن هو الروائي؟ بشير مفتي: يصعب طبعًا تحديد جواب لمثل هذا السؤال، بالرغم من كوني لا أعتقد في وجود شيء خاص يُميزه عن غيره من كُتّاب الأجناس الأخرى. إنّني أتصوّره كائنًا يقتات إلى حدٍ بعيد من حياة الآخرين فهو إلى حدٍ ما أو إلى حدٍ بعيد يعيش من خلال المُلاحظة والتجربة والتدقيق في التفاصيل التي لا تشغل النّاس العاديين وهي مهمة صعبة وخطيرة ودون شك لها آثار نفسية كبيرة على الروائي. طبعًا نحن لا نعقد مثل هذه المسائل، ظنًا منا أنَّ الكتابة سهلة ومُيّسرة. أنا تصوري مُختلف فكلّ رواية أو وراء كلّ رواية هناك علاقات تنشأ وتتفكك وهناك أحلام تولد وتموت وشخصيات تبرز وتنطفئ. وعمل الروائي إن كان يمكن تسمية ما يكتبه بهذا الشكل يقوم بالدرجة الأولى على التدقيق في حيوات الآخرين، وبالطبع تكون حياته أيضا محل مُعاينة وتدقيق وربّما هو يستغل ذاته قبل كلّ شيء أي كلّ ما عاشه وما حَلُم أن يعيشه وبالتالي الروائي يعيش على الأبعاد الزمنية الثلاث متداخلة في زمن واحد هو الحاضر، بوعي مُؤلم وحساسية مُفرطة وجمالية شعرية تُذهِب عن الحياة الرتابة والملل الّذي يُميّزها عادةً. الحُلم هو وظيفة الأدب والفنون بشكل عام وما هي وظيفة الرواية برأيك؟ هناك من يقول بأنّ وظيفة القصيدة هي أن تحلم. فما وظيفة الرواية يا ترى؟ بشير مفتي:أظن بأنّ الحُلم هو وظيفة الأدب والفنون بشكلٍ عام، فلا أتصوّر الأمر حكراً على الشِّعر فحسب، وأنا أظن بأنَّ الحُلم هو من أهم مصادر الكتابة الإبداعية بشكل عام لأنّه المجال الأكثر غِنى وتعدّداً وكثافةً بحيث يسمح للكاتب أن يدخل إلى مناطق مُتعدّدة ورحبة. وبالنسبة لي حتّى الخيال مُرتبط بقوّة مع الحُلم. طبعًا مسألة الوظيفة لا أدري إن كانت مُهمة أم لا؟ ولكن بِمَا أنّكِ طرحتِ السؤال فسأحاول الرد من موقعي الخاص والّذي يعنيني من رواياتي ليس أن تؤدي وظيفة وتلبي غرضًا من الأغراض. قد يكون لها دور ما، ووظيفة ما بحسب من يتلقى هذا العمل وقد يراه من زاويته الخاصة. لا أخفي عليك بأنّني أشعر بهذا اللبس، فمن جهة لا أعتقد في أي دور للأدب وتهمني الكتابة بشكلٍ حر وخاص. ثمّ هناك في رواياتي قضايا سياسية واجتماعية وهذا ما يُقلق بالفعل، فهي ثانوية بالنسبة لي، لكن سياق التلقي المُرتبط بالخارجي والمواضيع يجعلها أكثر أهمية من أي مستوى آخر. ربّما يكون بالنسبة لي أهم وأعظم. الرهان يكمن في كيفية اِستدراج القارئ إلى النص لكن ليس بالتوابل المُستهلكة كالجنس والسياسة والدين يقول الروائي رشيد بوجدرة: «صعوبة الرواية الحديثة ترجع إلى اِحتياجها إلى قارئ ذكي». أنت كروائي ألا تعتقد بوجود هذا القارئ الذكي؟ بشير مفتي: أحياناً ما يُثير الإحباط في الروائي المُجتهد أو على الأقل الّذي يُحاول أن يخرج على النمط والمُستهلك والمُجتر هو غياب القارئ الذكي أو القارئ الّذي يستطيع أن يستوعب بشكلٍ مُتميز ما يقرؤه وما يُقدمه له الروائي من خرجات فنية أو حتّى فكرية تمس الموضوع. أي عزلة النص المُجدّد وأستعمل كلمة «مجدّد» بحذر فهي مثل مقولة «الحداثة» تحتاج من وجهة نظري إلى تأمّل وتبصر نقدي ذلك أنّه تحت هذا الشِعار الّذي يُرفع بحق ومن غيره قُدِمت لنا الكثير من النصوص في ثوب مُغلق، أي أنّها لعبت دوراً سيئًا في تحقيق ما تصبو إليه النصوص الحديثة نفسها التي لم تأتِ لفصم العلاقة مع القارئ وبتر أي حوار ممكن ولكن لخلق حوار جديد. لعبة الغلق والغموض والتلاعب اللغوي المبني على وعي مشوّه بالدائرة التواصلية خلق نفوراً كبيراً من الروايات شبه الحداثية بل تلك التي تدعي الحداثة وما بعدها وتعجبتُ من رواية جزائرية تصدر ويكتب على ظهر الغلاف «هذه الرواية نص حديث جداً» ولا أدري من أقر له بهذا هل هو الناشر أم الروائي نفسه. وهل عندما نستعمل (حديثة جداً) ستُثير اِنتباه القارئ إلى التنحي عن الطريق لأنّه نص مكتوب لمن هم حداثيون جداً، أم القصد والغرض جلب هذا القارئ ثمّ ما أن تقرأ الرواية حتّى تُصاب بصداع لا قِبل لك به. أعتقد بأنَّ القارئ اليوم بحاجة إلى نصوص حديثة بالفعل ليخرج من تفاهة السطحي والمُبتذل لكن أي حداثة نريدها الآن؟ هل تلك التي تجرب بلا وعي وأقصى أهدافها أن يقول عنها النقد المُفبرك أنّها حداثية؟ أم تلك التي تُخاطب القارئ المُفترض وتستدرجه لغوايتها وتفتح نوافذ مُتعدّدة للحُلم والتأمّل والخيال. إنَّ الرهان يكمن في كيفية اِستدراج القارئ إلى النص ليس بالتوابل المُستهلكة كالجنس والسياسة والدين والتي أصبحت تستعمل اليوم ليس كتجارب تروم إلى كسر المُحرم ولكن إلى الإثارة وكسب الشهرة بغير حق. أظن بأنَّ الرواية الجزائرية باللّغة العربية خاصةً كما في السبعينيات قد هجرت القارئ الجزائري ونحن نسعى كجيل وكلّ بطريقته الخاصة إلى إعادة هذا القارئ إلى روايتنا الجزائرية بعد غياب طويل. حضور اللّغة الشِّعرية ومسألة الشِّعر تدخل بالدرجة الأولى ضمن تصوري للرواية تقول الكاتبة فضيلة الفاروق: «اللّغة شغل الشعراء، لغة الرواية تأتي إليك، وليست كلغة الشِّعر التي يذهب إليها الشاعر ويبحث عليها». هل حقًا اللّغة هي اشتغال الشاعر وليس الروائي؟ ما رأيك أنت خاصةً وأنّ القارئ لرواياتك وقصصك يُلاحظ بأنّك تكتب بشِّعرية أيضا؟ بشير مفتي: مسألة اِشتغال الروائي على لغته هي في صميم العمل الأدبي فالأدب هو قبل كلّ شيء عمل على اللّغة ولكن بِمَا أنّ الرواية تقوم على السرد والتفاصيل فهي تفتقد إلى ذلك البناء اللغوي المحض الّذي قد يكون من خصيصة الشِّعر بالدرجة الأولى، لكن هذا لم يمنع بعض الروائيين من تقديم نماذج على قدرة خارقة في هذا الاِستثمار ولعلّ نموذجًا من مثل «سليم بركات» خير من يُدلل على هذا. لا أخفي عليكِ بأنّني أقرأ بصعوبة روايات هذا الأخير فمرّة قعدت أكثر من شهر وأنا أُفكك لغة «الأختام والسديم» التي هي عملٌ مُدهش ومروع. إنّها نصوص لا يمكن أن تكون مكتوبة للجمهور العريض من النّاس بل حتّى المثقفون يشتكون من عسر هضمها وربّما أيضا يدخل «إدوار الخراط» في هذا الصنف الّذي يختار هذا التوجه البروستي وحتّى ما فعله جويس في «أوليس اللعينة» إنّها تجارب مخاطرة بالدرجة الأولى. عليّ أن أعترف بأنّني لا أتعامل مع اللّغة بهذا الشكل الكثيف وقد يحدث ذلك فيما بعد لأنَّ الأمر على ما أتصوّره يتطلب نضجًا وخبرة تحتاج إلى وقت وتفرغ حتّى نتمكن من تحقيق ذلك. أمّا حضور اللّغة الشِّعرية ومسألة الشِّعر فهي تدخل بالدرجة الأولى ضمن تصوري للرواية على أنّها نص مفتوح مُتعدّد أو كما يمكن تسميتها بأرض التكاثر ولهذا فأنا أُعدد المستويات والطبقات والحفر بداخل مناطقي الغامضة والمعتمة علَّ ضوءا ما ينير الدرب ويفتح الأفق لا غير. ما هي مرجعيتك أو خلفيتك أو متكآتك في الكتابة؟ بشير مفتي:كثيرة ومُتعدّدة ولا أرغب في سردها. كلّ ما يهمني في مسألة كهذه أنّني قارئ نهم للأدب بكلّ أنواعه والفلسفة والفكر وأحب السينما كثيراً ولي ميول للفن التشكيلي وأقرأ عن الرسامين.. ومن الناحية السياسية أحب دور المُثقف المعارض غير المُتصالح مع الأنظمة حتّى الديمقراطية منها مثلما يحدث للكثير من المثقفين الغربيين وربّما في هذا المجال أنا مُعجب كثيراً بشخصية وفكر المُفكر الفلسطيني المرحوم إدوارد سعيد. كم أتمنى لو يَطلِع الجميع على كُتُبه ويقرئونها بحب ووعي. إنّها زاد حقيقي للطريق. أختار عن قصد شخصيات مثقفة ومهزومة شخصياتك ورغم اِنهزاميّتها وسوداويّتها تحمل همًا إنسانيًا واضح الوجع، وهي على درجة عالية من الوعي. هل تتعمد اِختيار هذا النوع من الشخصيات؟ بشير مفتي:إنّني أختار عن قصد شخصيات مُثقفة ومهزومة لأنّه في لحظات الاِنسداد والغُبن تتم مُراجعة النفس والتأمل في الحياة والنظر بعُمق إلى الماضي والتفكير بجدية في المستقبل. نعم هي شخصيات ورقية مأخوذة من الحياة في لحظات هزيمة وسقوط وهي تفكر في ذلك كله علها تجد نقطة ضوء. علها تعثر على سبيل الخلاص. وأين وُفِقت؟ وأين أخطأت؟ إنّها تُريد أن تعرف لماذا كان مسارها شاقًا وعنيفًا؟ لماذا هذه النتيجة وليس غيرها؟ إنّها شخصيات قلقة وتسأل ولهذا فهي تُدخِل القارئ معها في نفس الجو؟ جو السؤال القَلِقْ والوعي المُربك. يقول الكاتب الإيطالي أنطونيو تابوكي: «شخصياتنا تُحاسبنا، كيف لا ونحن نشعر في مرحلة ما بالمسؤولية إزاءها أو بشعور قوي بالذنب». فهل شخصياتك تُحاسبك أيضًا، حدثنا عن هذه النقطة بالذات؟ بشير مفتي: لقد حاولتُ في «شاهد العتمة» أن أجعل بعض الشخصيات تخرج من وضعها السلبي لتُحاكم الروائي عمَّا يفعله بها. كان الأمر مُسليًا بعض الشيء. كنتُ أدرك أنَّ شيئًا كهذا ربّما مُضر بمنطق الرواية لكن فعلتها حتّى يُدرك القارئ أنَّ الشخصية ليست دمية قارقوز وأنَّ لها كيانًا حيويًا، ودماغًا تسأل به، وأنّها هي الأخرى حرة في مسارها وشخصيتها وهذه الأمور ليست مُسلية دائمًا لأنّها تُربك نظام القراءة، وتُزعج المُتلقي الّذي يفترض التماهي بين الرواية والحياة. يشهد المشهد الثقافي الجزائري سجالات إشكالية ومحتدة أحيانا حول بعض القضايا من فترة لأخرى. كيف ترى هذه النقاشات؟ بشير مفتي: أقول بأنّ النقاش هو دائمًا مسألة صحية لكن اِفتعال القضايا هو المشكلة. فالمسائل التي تُطرح للنقاش ليست دائمًا بريئة فهناك خلفيات يجب معرفتها ومن هنا فالأدب لا يمكنه أن يُجيب على الأسئلة التي تُطرح من الإعلام خاصةً لأنّ وظيفته هي الأسئلة بالدرجة الأولى. لكن ما يحدث اليوم أنّ شبه الصحفي هو الّذي يفرض النقاش وهو من يتولى طرح الأسئلة وهذا في حد ذاته غلط في غلط ومن السذاجة أن نجتر ما يطرحونه علينا من نقاشات تافهة لا أفهم رأسها من رجلها ولا حتّى قيمتها الأدبية وقيمتها المعرفية وأهميتها في النهاية. إنّها مهاترات وسحابات عابرة ولكنّها يا للأسف تسكت عن مواضيع أهم ونقاشات أخطر وقضايا فاعلة بالفعل.