كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على حياة الأفراد، لكن هناك ظواهر أخرى تعرف تناميا مخيفا في مجتمعنا، أين تشكلت جماعات صغيرة تعيش في عالم مواز و تتغذى على الخيال والقوى الخارقة، كما هو الحال بالنسبة لمدمني أفلام "الأنيمي" اليابانية، بكل ما تحمله من عنف وتكريس لمفهوم الجسد المثالي وحتى إيحاءات جنسية، وهو ما أفرز هوسا بمحتواها في أوساط أطفال ومراهقين و شباب، رغم ما يترتب عن ذلك من عزلة اجتماعية و انفصال عن الواقع، يحذر المختصون من خطورته. "أوتاكو الأنيمي"، هي "موضة" بدأت تظهر في الجزائر خلال السنوات الأخيرة خصوصا وسط المراهقين الذين يتحولون إلى أشخاص قليلي الكلام يتسمون ب" العمق" كما يصفون أنفسهم. و "الأوتاكو" كلمة يابانية يقصد بها "منزل" و تطلق على الأشخاص المعجبين بهواية ما، خاصة "الأنيمي" وهي رسوم متحركة يابانية و ألعاب الفيديو. من اليابان إلى الجزائر هذه الظاهرة بدأت في اليابان بعد تطور رسوم "الأنيمي" في منتصف القرن العشرين، لتنتشر في بلدان العالم و ترتبط في السنوات الأخيرة بفئة من الأشخاص غير المنتجين و غير القادرين على مواكبة التطور التكنولوجي، حيث يهربون من الواقع إلى حياة الرسوم المتحركة، أفلام الأنيمي، المونغا و ألعاب الفيديو، و يفضلون الانعزال عن محيطهم و العيش مع شخصياتها، خصوصا وأن هذه الأفلام تقترب كثيرا من الواقع، و يُعتمد في تصويرها على تقنيات عالية تخاطب الحواس و العقل. ويدرك المتصفح لمواقع التواصل الاجتماعي، الهوس الكبير الذي اجتاح الصغار والمراهقين وحتى الشباب، بهذه الأفلام بحيث أصبحوا مدمنين على الأنيمي وألعاب الفيديو. ويمكن ملاحظة تنامي هذه الظاهرة بالجزائر، من خلال الانتشار القوي لصور شباب وشابات على منصات التواصل، وهم يرتدون أزياء شخصيات كرتونية ويضعون زينتها و يقلدونها، ليعكسوا ثقافة "الأوتاكوو" و "المونغا" وهو نوع من القصص المصورة اليابانية، و يستغل هؤلاء بعض المناسبات الثقافية و الفنية للالتقاء. النصر حاولت معرفة خبايا هذا العالم، فمن خلال مجموعات خاصة بهؤلاء الأشخاص على موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك، تمكنا من الوصول إلى بعضهم و التحدث إليهم، حيث كان جلهم يضع صور شخصيات "أنيمي" للتعريف بحساباتهم ويستخدمون أسماء يابانية بما يعكس درجة الهوس بهذا المحتوى. مجتمع خاص ينمو بعيدا عن الأولياء! و اكتشفنا من خلال الاستطلاع الذي شمل عينات من قسنطينة، أن أغلب "مهووسي الأنيمي" هم مراهقون يدرسون في المتوسط والثانوي، في حين تتراوح أعمارهم بين 12 و 25 عاما، و من بينهم "ماريا" التي تدرس في مرحلة الثانوي، حيث أخبرتنا أنها عاشقة لأفلام "الأنيمي" التي تعتبرها فنا يُقدَّم بأسلوب جميل و منفرد، ويتضمن خيالات متنوعة وقصصا تربط كل المعاني الحسية، في حين أن الرسوم المتحركة الأخرى تتسم بالتكرار وأحادية الأسلوب وقصر الخيال بحسب تعبيرها، قبل أن تتابع في حماس "مكنني الأنيمي من التعرف على الثقافة اليابانية، و حضارة هذا البلد الذي أتمنى أن أكمل حياتي به، حتى أنني أصبحت أتقن اللغة اليابانية". كما يقول لقمان وهو طالب ماستر في تخصص المعلوماتية، إنه تعلق بالأنيمي إلى درجة أنه عندما يكون مع أصدقائه، ينتظر بشغف رجوعه إلى المنزل لمشاهدة ما تبقى من حلقات، نافيا أن يكون ذلك قد أثر على حياته الاجتماعية، حيث ذكر أنه ليس شخصا انطوائيا ويتواصل مع العائلة والأصدقاء بشكل طبيعي جدا، وفق تعبيره. ويبدو أن العديد من الأولياء لا يرون أن "الأنيمي" يشكل خطورة على الصحة النفسية لأبنائهم، من منطلق أنها "مجرد رسوم متحركة" حسب تصورهم، حيث تقول أسرار وهي طالبة جامعية أيضا، إنها تتابع أفلام الكرتون هذه منذ طفولتها ولم تلمس رقابة الأهل أثناء مشاهدتها للرسوم المتحركة طيلة ساعات طويلة تستمر لوقت متأخر من الليل دون علم والديها بالأمر، و هو نفس ما أكده لنا شباب و مراهقون آخرون. و الخطير في الأمر، أن هناك نوعا من رسوم "الأنيمي" يطلق عليهم "هانتاي" و هو عبارة عن كرتون يقدّم مضامين تحتوي على إيحاءات جنسية، و بات متوفرا على مختلف المنصات الإلكترونية، و تقول طالبة جامعية في تخصص اللغة الفرنسية، إنها اصطدمت بهذه المضامين، غير أنها كانت واعية بأنها لا أخلاقية فلم تتابعها، في حين أن الأطفال لا يدركون هذا الأمر و يتأثرون بالمحتوى غير الأخلاقي المعروض إلى أن يصبحوا "مدمني هانتاي" وفق تعبيرها. "العمق".. مفهوم جديد يزداد انتشارا بين التلاميذ و لا تقتصر الخطورة على هذا الجانب، فقد تسبب "الإدمان" على "الأنيمي" في مشاكل نفسية للمراهقين الذين أصبحوا يسمون أنفسهم ب "العميقين"، و هو مصطلح صار شائعا وسط تلاميذ الثانوي و حتى المتوسط، بحيث يلبسون نظارات سوداء و يظهرون بملامح حزينة كما يرتدون اللباس الفضفاض وأغلب ثيابهم باللون الأسود. وأخبرنا أحمد وهو تلميذ يدرس في السنة الثالثة متوسط، أنه يشاهد أفلام "الأنيمي" باستمرار و قد جعلته يتصف ب "العمق". سألناه عما يقصده بهذا المصطلح، فأجاب بأن شخصيته تتسم بعمق في التفكير بغض النظر عن مظهره الخارجي، مضيفا أن سلوكه يعكس شخصيته و ميولاته نحو "الموسيقى الحزينة"، حيث قال إن البقاء بمفرده يشعره بالراحة النفسية، كونه لا يحب الضجيج الذي يحدِثه الأشخاص في محيطه. و أسرّت لنا إحدى التلميذات التي التقينا بها قرب إحدى متوسطات حي زواغي بقسنطينة، بأن 3 من زملائها في القسم من فئة "العميقين" كما وصفتهم، وقالت إنهم أشخاص طيبون ولا يؤذون غيرهم، لكنهم غريبو الأطوار، فعلى الرغم من علاماتهم الدراسية العالية إلا أن مشاركتهم في القسم تكاد تنعدم، كما يتقنون اللغة الإنجليزية ويستمعون إلى الأغاني الأجنبية الحزينة بالإضافة إلى جلوسهم أمام النافذة ومشاهدة السماء بنظرات تائهة. و كثيرا ما يترك من يسمون أنفسهم "عميقين"، تعليقات بمختلف وسائل التواصل الاجتماعي، ينقلون فيها تجاربهم، على غرار تلميذة قالت إنها وجدت نفسها في هذا العالم إثر تعرضها لصدمة نفسية بعد وفاة أفراد عائلتها في حادث سير، كما يُظهر آخرون تأثرا و تعلقا شديدين بفرق غنائية آسياوية بعينها، على غرار "بي تي أس" الكورية، إضافة إلى البوب الكوري "كي بوب" والاستماع للمغنية الأمريكية المثيرة للجدل "بيلي آيلش". * أستاذ علم الاجتماع جيملي بوبكر "الأنيمي" تنتج شبابا معادين للمجتمع يرى الأستاذ في علم الاجتماع جيملي بوبكر، أن هناك صعودا سريعا لثقافة الأنيمي التي جذبت إليها الأطفال والمراهقين والشباب الذين أصبحوا في نهاية المطاف معادين للمجتمع، لدرجة أنهم لم يتمكنوا من التواصل أو إقامة علاقات اجتماعية مع الآخرين إطلاقا. وأضاف المختص أن أجيال الأوتاكو في الجزائر ستفشل في التكيف مع المجتمع، لغرقها في عالم الخيال اللامحدود الذي يصور لهم تطورا علميا وأدوات تكنولوجيا لا توجد في عصرنا وقوى خارقة تفوق الخيال. و يفسر الأستاذ جيملي، هذه الظاهرة بالتقمص الوجداني، وهو القدرة على وضع أنفسنا في عالم الشخص الآخر وإدراك مشاعره و الإحساس به، حيث أن المراهقين يقلدون الشخصيات الموجودة في الأنيمي و المسلسلات، ويتسامى التقليد المفرط عند الذين يجدون من يشبههم، فيبدؤون في إظهار التقمص الوجداني لمن يشبههم أكثر. * المختص في علم النفس كمال بن عميرة ثقافة تفصل الفرد عن الواقع و تدخله في عالم وهمي يؤكد الأخصائي النفساني العيادي، كمال بن عميرة، أن أغلبية الأشخاص المتأثرين برسوم الأنيمي ليس لديهم هدف في الحياة و لا يتمتعون بالنضج الكافي، لذلك فهم يحاكون شخصياتها و يتشبهون بها، ليحققوا المتعة من خلال الانفصال عن الواقع والتعايش مع عالم وهمي. و يضيف المختص أن انعدام التواصل داخل العائلة و فقدان الطفل للعاطفة الأسرية التي تجعله يشعر بالانتماء إلى النواة الأساسية في المجتمع، يجعلانه شخصا انطوائيا وفاقدا للثقة بنفسه، فيتوجه لمشاهدة الأنيمي لساعات طويلة، رغبة منه في الهروب من واقعه. و يتابع بن عميرة قائلا: "على الأولياء تفعيل الدور الرقابي على الأطفال وتبني لغة الحوار بينهم، مع مشاهدة ما يشاهده الأبناء والجلوس معهم لمعرفة ذوقهم وما يحبون، ثم مناقشتهم بالأفكار ليوضحوا لهم ما هو الصواب والخطأ". كما ينصح المختص بملاحظة سلوك أصدقاء أطفالهم، وضبط وقت المشاهدة حسب العمر حتى لا يتعلقوا بالمحتوى ويتحولوا لمدمني أنيمي، محذرا بأن بدء الطفل في الميل للعزلة بسبب الأنيمي أو ظهور سلوك عصبي أو اكتئاب عليه، يستدعي التحرك سريعا لعلاج الحالة حتى لا تزيد تعقيدا. "سكويد غايم" و الرسائل المشفرة وما زاد الأمر سوءا حسب بن عميرة، هو انتشار الأنيمي الإباحي، الذي يؤثر على الأطفال والمراهقين شعوريا أو لا شعوريا، حيث تتسلل الأفكار الجنسية خلسة في مشهد صغير، لتترك انطباعها على الصغير وتجعله مدمنا على هذا النوع من الكرتون، من خلال تحريك مشاعرهم وعواطفهم بفعل إفراز الجسم لهرمون الدوبامين. وأضاف الأخصائي النفساني، أن المسلسل الكوري الشهير "سكويد غايم" والذي تصدر قائمة المسلسلات الأكثر مشاهدة عالميا على منصة "نيتفلكيس"، من المسلسلات التي تحرض على العنف وسفك الدماء، و يتوقع أن يميل الأطفال إلى تقمص شخصيات أبطاله، ما يؤثر على عقولهم، وهو ما أكدته العديد من الدارسات، حيث أثبتت الارتباط القوي بين مشاهدة البرامج التلفزيونية العنيفة و السلوك العدواني.