من الضروري أن يتولى الدراسات الأنثروبولوجية في الجزائر جزائريون * عادة ما تذهب الأنتروبولوجيا ضحية الإيديولوجيا يتحدث الباحث والأكاديمي الدكتور موسى معيرش، عن الأنثروبولوجيا في الجزائر ويؤكد أن مجال دراساتها تحّرر مع الاِنفتاح السياسي الّذي أعقب أحداث أكتوبر 1988، وصدور دستور التعدّديّة، إلاّ أنّها ، و–حسب رأيه دائمًا- مازالت في بدايتها، وهي ترتبط في كثير من الأحيان بالإيديولوجيا. الدكتور معيرش، تحدث من جهةٍ أخرى في هذا الحوار للنصر عن دور الأنثروبولوجيا في المجتمع الجزائري، وما الّذي يمكن أن تقدمه غير التنظير. وعن العلوم الاِجتماعية التي يرى أنّها تتنوع في موضوعاتها وتكاد تتشابه في المناهج التي تستخدمها إلى درجة التطابق، ومع هذا تختلف إلى درجة التناقض. للإشارة الدكتور موسى معيرش، بروفيسور في الفلسفة درس بجامعتي قسنطينة وخنشلة، كما شغل عِدة مناصب، منها: رئيس مجلس علمي، خبير في الندوة الجهوية لجامعات الشرق، عضو اللجنة البيداغوجية الوطنية للعلوم الإنسانية والاجتماعية، رئيس مشروع دكتوراه فلسفة الأديان، رئيس عِدة مشاريع بحث وطنية ودولية، نائب عميد مُكلف بالدراسات العليا والبحث العلمي والعلاقات الخارجية. له العديد من الإصدارات، من بينها: «الفكر الإسلامي في المغرب العربي»، «المعرفة والبحث العلمي»، «قضايا الفلسفة العامة»، «النظام السياسي في اليهودية والإسلام»، «نظام الحكم في اليهودية»، «الُجدل الديني والسياسي في اليهودية والإسلام بين المقدس والمدنس»، «فلسفة القيم: مفهومها/طبيعتها»، «تصنيف القيم بين الدين والفلسفة»، «القيم في الفلسفة الشرقية إشكاليات وأعلام»، «المدينة الفاضلة عند أبي الأعلى المودودي»، «مدخل في الأنثروبولوجيا»، «فلسفة الفلسفة». كما له مجموعة كُتب جماعية، ونشر العديد من المقالات في مجلات محكمة داخل وخارج الجزائر، وفي الصحف الوطنية. التضييق الّذي كان على الأنثروبولوجيا اِنتهى مع الاِنفتاح السياسي الّذي أعقب أحداث 1988 هل هناك أنثروبولوجيا جزائرية يُعوّل عليها؟ وهل اِستطاعت الدراسات الأكاديمية أن تخرج بنتائج علمية؟ وهل عملت على تطوير مادة الأنثروبولوجيا؟ موسى معيرش: بدايةً لابدّ أن نعود وأن نُصارح أنفسنا، بأنّ الدراسات الأنثربولوجية بمفهومها المُتعارف عليه حاليًا، دخلت إلى الجزائر مع الاِستعمار الفرنسي، ذلك أنّ الفرنسيين بصورةٍ خاصة أسهموا بكيفية فعّالة في تطويرات الدراسات الأنثربولوجية المتعلقة بثقافة الشعوب غير الأوربية، لمُواكبة جحافل الاِستعمار، وتسهيلاً للجيش الفرنسي التغلب على مقاومة الشعوب التي يغزوها في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، كما لعبت هذه الدراسات دوراً فاعلاً في التبشير المُصاحب والمُرافق للاِستعمار. ولذا وجدنا الأنثربولوجيين الفرنسيين بخاصة والأوربيين بعامة يسعون لدراسة عادات وتقاليد وقيم وكلّ ما يرمز لثقافة الأهالي، بقصد اِستخدمها فيما يُفيد الاِستعمار. ولذا كان موقف الدولة الرسمي بعد الاِستقلال هو وصف هذا العِلم بالعِلم الاِستعماري والتضييق على الدراسات ذات الصلة، غير أنّ الاِنفتاح السياسي الّذي أعقب أحداث 1988، وصدور دستور التعدّديّة، جعل العديد من المثقفين والأكاديميين الجزائريين يُعِيدون النظر في هذه الرؤية، مبادرة بفتح هذا التخصص في الجامعة الجزائرية، وفتح مسابقات ماجستير للأنثربولوجيا الثّقافيّة، ومنها الدفعة التي أشرفتُ عليها بجامعة عباس لغرور بخنشلة، حيثُ أصبح خريجوها من مؤطري هذا التخصص في الجامعة الجزائرية، مع العِلم أنّ الدولة في هذه الفترة أو بالأحرى بعد التعدّد فتحت مراكز للدراسات الأنثربولوجية ألحقتها بوزارة الثقافة والتعليم العالي. وقد أصبحت مراكز البحث بالإضافة إلى الجامعة توظف باحثين مهتمين بالدراسات الأنثربولوجية وعِلم الاِجتماع الثقافي، ومع أنّها قدمت عشرات الدراسات غير أنّنا نراها مازالت في بدايتها، خاصةً أنّها ترتبط في كثير من الأحيان بالإيديولوجيا، دون أن تتمكن من التحرّر من الخلفية الفرنسية. غير أنّ تزايد الباحثين الأكاديميين في الجامعة الجزائرية، ومساحة الحرية الممنوحة في هذا الجانب من شأنه أن يُقدم دراسات وبحوث علمية جادة، مع أنّها ما تزال في البدايات الأولى. ولاشك أنّ ما حدث بعد التسعينات في الجزائر ساهم في تطوير الأنثربولوجيا كمادة علمية، وتحوّل الاِهتمام بها من سلاح في يد الاِستعمار إلى الجانب العلمي الهادف للكشف عن التنوع الثقافي الجزائري، وخصوصية مجتمعه، في مختلف مجالات الثقافة الجزائرية. وما دورها في المجتمع الجزائري، وما الّذي يمكن أن تقدمه غير التنظير؟ موسى معيرش:من المهم جداً أن نكتب عن المجتمع الجزائري بأقلام جزائرية، للكشف عن مكونات ثقافته وعاداته وتقاليده وقيمه، حتّى تحقّق أكثر من هدف منها: -فهم عقلية الشعب الجزائري حتّى توضع تنمية تتوافق مع هذه العقلية، لعلّ أبسطها وضع برامج سكنية تتناسب مع ساكنيه، إذ لاشك أنّ ساكنة الريف تختلف عن ساكنة المُدن، وساكنة الشمال مختلفون عن ساكنة الجنوب، وهكذا. -من جهة أخرى تُحقِّق هذه الدراسات الجانب العلمي الأكاديمي البعيد عن التزييف والتوجيه. فمثل هذه الدراسات تُحقِّق الجانب العملي والجانب النظري. برأيك هل يمكن الحديث عن تنوع وتعدّد مناهج البحث في الأنثربولوجيا؟ موسى معيرش: تتنوّع عادة العلوم الاِجتماعية في موضوعاتها وتكاد تتشابه في المناهج التي تستخدمها إلى درجة التطابق ومع هذا تختلف إلى درجة التناقض فيما يتعلّق بالزّاوية التي تنظر بها إلى الموضوع مِمَا يُبرّر وجود وخصوصية كلّ عِلم من علومها وأهميته وأساليب البحث فيه. وفي هذا الإطار يقول «عاطف صدقي»: «ولكن رغم هذا التشابه في مناهج العلوم الاِجتماعية يستخدم كلٌّ منها طُرق بحثٍ مختلفة تتفق مع طريقة الظواهر الاِجتماعية التي تتخصص في دراستها»، وهكذا نلاحظ أنّه بينما تتفق العلوم الاِجتماعية في الموضوع وهو الحياة الاِجتماعية فإنّها أيضا تتفق في المنهج المُستخدم في ذلك الموضوع، أيّ أنّه المنهج العلمي، ولكن الاِتفاق يتحوّل إلى اِختلافات عند الاِنتقال من المفهوم العام للمنهج إلى المفاهيم المتخصصّة أو الفرعية، فنجد أنّ العلوم الاِجتماعية تختلف في الموضوعات الفرعية التي يستخدمها كلّ عِلم اجتماعي، وكذلك تختلف طُرق البحث التي يستخدمها كلّ عِلم، ولكن يجب ملاحظة أنّ هذا الاِختلاف ليس معناه الفصل أو العزل بين الموضوعات المتخصصة وطُرق البحث الخاصّة بكلّ عِلم اجتماعي وإنّما هو اختلاف يسمح بالتعاون والتكرار والتداخل». وبهذا يكون من المفيد الإشارة إلى بعض هذه العلوم ومناهج الدّراسة. كما سلف الذكر فالأنثروبولوجيا، علم حديث النشأة، إلاّ أنّ موضوعاته قديمة، ذلك أنّ الحديث عن ثقافة الإنسان وطبيعته وخصّائصه، وحتى تصل إلى مكانتها الحالية، فقد مرّت بمراحل وخطوات هامة في مختلف العصور والأمصّار، حتى وصلت إلى مرحلتها الحالية. رغم أنّها ليست العِلم الوحيد الذي اهتم بالإنسان، ومع هذا فقد انفردت بجوانب من موضوعها، كما أنّها استفادت من الدراسات التي قدمتها العلوم الأخرى، في الماضي والحاضر. وهذا العِلم -كما قلنا- لم يكتسب خصوصيته إلاّ بعد أن ظهر المنهج العلمي، وسطر لنفسه، بعض المناهجَ أو طرقا خاصّة للبحث فيه. كما هو معروف فإنّ الأنثروبولوجيا اِكتسبت أهميتها أيضًا من اِستخدامها للمنهح العلمي. فهل لك أن تُوضح هذا أكثر؟ موسى معيرش: الأنثروبولوجيا اِكتسبت –فعلاً- أهميتها بعد اِستخدامها للمنهج العلمي إلاّ أنّ خصوصية الموضوع حتمت خصوصية المُعالجة، ولأجل ذلك وضع روّادها بعض الطُرق التي يُستعان بها فحددوها على النحو التالي: أوّلاً الملاحظة بالمشاركة: فالأنثربولوجيا، تهتم عادةً بدّراسة ثقافة الشعوب البدّائية، وهذا ما يجعل الباحث يصطدم بمعوقات منهجية ومعرفية خطيرة ومختلفة عَمَّا اعتاد عليه، خصوصًا وأنّ الباحث في هذا المجال غالبًا ما يكون ترعرع في بيئة مختلفة تمامًا عن البيئة التي جعلها موضع دراسته، مِمَّا يدفعه إلى ضرورة التكيف مع طبيعة الموضوع من جهة والتكيف مع بيئة الدّراسة الطبيعية والاِجتماعية من جهة ثانية، فتصبح إقامته في مكان الدّراسة لا تحتاج إلى تنبيه، لأنّ الاِكتفاء بالتقارير غير المباشرة التي قد تنقل إليه، كما نقلت إلى الأنثربولوجيين الأوائل غير ذات معنى، بل وأنّ الباحث لا يكتفِ بزيارة الموقع أو ما يُعبر عنه عادةً بحقل الدّراسة مرّة أو مرّات معزولة، وإنّما لابدّ له من الإقامة والمعايشة اليوميّة طيلة المدّة التي تتطلبها الدّراسة والتي غالبًا ما لا تقل عن ستة أشهر، حتّى يتمكن من الفهم المباشر لِمَا يدور حوله. فضلاً على الاِنخراط المباشر في الحياة اليومية والاجتماعية للمجتمع المدروس، وكثيرا ما عايش عُلماء الأنثربولوجيا بعض الأقوام البدّائية وتزوجوا منهم بل وأنجبوا. كما لا يكتفي عالم الأنثروبولوجيا بطرح الأسئلة وإنّما يعمل على التكيّف لدرجة إتقان طُرق تفكيرهم، دون أن يهمل التسجيل أو بالأحرى التدوين المستمر والمباشر لما يلاحظه دون أن يهمل الملاحظات الصغيرة فضلاً عن الكبيرة. وهذا ما يُعرف بالملاحظة عن طريق المشاركة، أي أنّ الباحث لا يكتفي بملاحظة ما يصادفه بل ويعايش ويشارك في صنع ما يلاحظ. وللأهمية البالغة لهذا المنهج وضع الأنثربولوجي البريطاني «ايفا نز بريتشارد» مجموعة من القواعد للباحث الّذي يستخدم الملاحظة المشاركة طالبًا منه الاِلتزام بها على النحو التالي: - تتطلب الملاحظة بالمشاركة قدرات معرفية ومنهجية لا تُتاح لكلّ من يرغب في القيام بها مِمَا يتطلب حدًّا أدنى من المعارف، أهمها دراسة من قسمين تشمل دراسة متخصصة ونظرية في الأنثربولوجيا بصورة خاصّة وعِلم الاجتماع بصورة عامة. -معايشة الباحث لعينته مدّة لا تقل عن ستة أشهر، وقد تزيد حسب مدّة الدّراسة. -مشاركة الباحث للعينة في مختلف نشاطاتها وجوانب حياتها. -معرفة اللّغة الأصلية للعينة لأنّ الترجمة من جهة مُضللة ومن جهة ثانية تساهم المعرفة باللّغة على الفهم الدقيق. -لا يحاول أن يحصر مجال الدّراسة في جانب محدّد بل يعمل أن يشمل مختلف مجالات معيشة العينة. -كما يجب أن يتميّز الباحث الأنثربولوجي الّذي يستخدم هذا المنهج بالمميّزات العامة للباحث ومنها القدرة على التحليل والتكيف والموضوعية والابتعاد عن التحيّز ونظرة الاستعلاء. ومن أهم الدّراسات الأنثربولوجيا التي تمت بهذه الكيفية الدّراسة التي أجراها الأنثروبولوجي «مالينفوسكيّ في «جزر التروبرياند»، حيث ذهب إلى هناك قبل الحرب العالمية الأولى ولم يعد إلاّ بعد نهايتها، فقضى أربع سنوات كاملة تعلم فيها لغة سكان الجُزر وعاش نمط معيشتهم، مِمَا ساعده في فهم والتعمق في ثقافتهم وتحليل مكوناتها والربط بينها. وفي عام 1922 نشر كتابه الشهير «بحارة غرب المحيط الهادي الجسورون Argonauts of western pacific». وما مدى أهمية استعانة الأنثربولوجي بمناهج أخرى؟ موسى معيرش: إنّ الحاجة تدفع العلماء إلى الاِبتكار وهكذا كان الأمر بالنسبة لعلماء الأنثربولوجيا حيث لاحظوا أنّه في كثير من الأحيان تعجز الوسائل المستخدمة في الوصول إلى نتائج أفضّل خصوصا مع اتساع الفترة الزّمنية المُراد التعرض لها بالدراسة خصوصاً إذا ما كنا نرغب في تتبع التطورات والتغيرات التي تحدث في مجتمع الدراسة، وهذا ما تطلب منهجًا أو قل تقنية تتناسب وحاجة الدراسة، ففي هذه الحالة يعتمد الباحثون في الدراسات الحقلية: في المجتمعات البدوية على تتبع حياة عدد من الأشخاص والذين استطاعوا أن يكسبوا ثقتهم إلى حدّ الحديث معهم عن حياتهم الشخصية والأحداث التي عاشوها في المراحل العمرية المختلفة، فتتبع تاريخ القضاة والزعماء الدينيين والرعاة والتجار المتجولين تُبين أسلوب التنشئة الاجتماعية والخبرات المتراكمة المؤهلة للزعامة وكيفية انتقال المعلومات والخبرات الخاصّة من جيلٍ إلى جيل، وتحديد مقومات الأبناء في وراثة المركز الاجتماعي المتميّز في القبيلة، كما يتبين من تطوّر الشخصية واتجاهاتها إلى التخصص في مجال متمايز من مجالات الحياة اليدوية كمجال الزعامة الدينية وتتبع الروايات والأساطير التي تأسست عليها. وبصورة عامة تتلّخص هذه الطريقة كما يقول «عاطفي وصفي» في: تدوين الأحداث التي تَمرُّ في حياة بعض أفراد المجتمع موضوع الدّراسة، وعلى الإخباري أنّ يقصّ على الباحث تاريخ حياته منذ الصِّغر إلى اللّحظة التي يتحدّث فيها.