دخلت تونس أزمة سياسية مخيفة، هي بمثابة امتحان قاس لثورة الياسمين التي انتزعت إعجاب العالم، وقبلها كانت مصر قد خطت نفس الخطوات على أرض العنف السياسي. والقاسم المشترك بين البلدين هو رفض الاسلام السياسي الذي جاءت به الانتخابات التي أعقبت الثورتين. ما يحيل إلى أن الثورات التي أطاحت برؤوس أنظمة لم تبلغ مداها في إعادة الحكم للشعب، أي أن النخب السياسية لم تبلغ مرحلة تقبل فيها بحكم الشعب في ظل غياب "مؤسسات قاعدية للدولة" تتولى ضبط الحياة العامة، فيصبح مفهوم الدولة في حد ذاته مطروحا على طاولة النقاش. وفي الحالتين اللتين تتشابهان مع حالات عربية، تبدو بعض النخب الحزبية والإعلامية مدعومة برجال الظل داخل أنظمة الحكم، مالكة لحق الفيتو وناطقة باسم الحق حتى ولو كانت تفتقر للشرعية الشعبية، لأنها ببساطة تمتلك أدوات التأثير وتستطيع إشاعة الفوضى غير الخلاقة التي تبث رسالة فحواها أن الديكتاتوريات هي أسلوب الحكم الوحيد الذي يليق بهذه الشعوب. وبغض النظر عن التجاوزات التي تقوم بها الأحزاب الاسلامية في بعض البلدان العربية فإنها أصبحت البديل الجاهز للأنظمة بحكم هيكلتها ونضالها الميداني وليس لعبقرية كوادرها و عظمة برامجها، ولأنها عانت من المنع والتعسف، أي أنها وجدت نفسها في موقع المظلوم الذي أنصف أخيرا وهي صفة تجلب تعاطف الشعوب. بل أن قوى غربية سارعت إلى فتح خط وردي مع التيارات الإسلامية التي ترى فيها بديلا للأنظمة برعاية الأيدي الكريمة المانحة ممثلة في الوهابية والإخوانية، وحتى بعض النخب العسكرية التي حكمت من خلف الستار وأرادت النجاة بقبعاتها من الثورات حاولت وضع نفسها في خانة الحياد وفتحت بدورها خطا أخضر مع هذه الحركات بغرض الاستمرار من خلالها في مفاصل الحكم، بعد أن عمدت إلى انتهاج تكتيك حماية الثورات عندما حانت ساعة الحساب الذي لم يكتمل. صحيح، أن هيمنة تيارات دينية على الحكم بعد نهاية عهود الدكتاتورية يعد نكوصا وليس تقدما، لكن التصفية السياسية والأمنية للاسلام السياسي تبدو غير مجدية، لأن صعود هذا التيار كان نتيجة إخفاق سواه، وبالتالي فإن التصفية تكون سوسيولوجية، أي عن طريق الاخضاع لامتحان الواقع وليس عن طريق العدوان. ملاحظة الأزمات السياسية هي الجزء الظاهر من جبل التخلف في المجتمعات العربية، والتخلف مرتبط بالأساس بالبنية الأبوية التي تعيد في كل مرة انتاج نفسها كخلايا سرطانية وفق تشخيص الراحل هشام شرابي. وحين نرى أنظمة بطركية تقود الثورات العربية وتستخدم النخب في مشاريعها، نعرف أن الربيع كان كاذبا وأن زمن الظلمات سيطول. سليم بوفنداسة