الأوراس يستقبل الربيع بمهرجان ثافسوث تزينت مطلع الأسبوع الجاري بلدية منعه في أقصى جنوب عاصمة الأوراس باتنة بحلة جميلة احتفالا بحلول فصل الربيع أو "ثافسوث" كما يطلق عليه بالأمازيغية، وهي مناسبة متجذرة في المنطقة لا يفوتها سكان منعه لإحيائها بعادات وتقاليد متوارثة عن الأجداد منذ قرون، وقد تميز هذه السنة الاحتفال بمهرجان "ثافسوث" بإقامة نشاطات متنوعة مستمدة من العادات بادرت الجمعية الثقافية التراثية التي تحمل اسم المناسبة "ثافسوث" إلى تنظيمها وهو الهدف الوحيد المنشود الذي تأسست من أجله الجمعية حسب رئيسها موسى قالة الذي وجه لنا الدعوة لحضور المهرجان. ربورتاج: ياسين عبوبو الطريق إلى منعه... سياحة جبلية خلابة انطلقنا في الصباح الباكر من عاصمة الولاية باتجاه منعه الواقعة في أعماق الأوراس، بحيث أنها تبعد بمسافة 85 كيلومتر جنوب عاصمة الولاية باتنة، وستتاح للمتوجه لمنعه قبل الوصول إليها التمتع بمناظر طبيعية خلابة عبر مرتفعات الأوراس الشامخة، كجبل المحمل الذي يزيد علوه عن 1800 متر والذي كان في وقت مضى مزارا وقبلة لممارسة التزحلق على الثلوج. و في طريقنا شدنا معانقة مرتفعات ثنية الرصاص للسحاب الذي تلامسه القمم الجبلية التي وجدناها تكتسي حلة بيضاء بالثلوج المتساقطة منذ مدة طويلة وكأن بنا قبل الوصول إلى منعه نعايش الفصول الأربعة قبل أن تستقبلنا شمس فصل الربيع التي أطلت على منعه عند وصولنا إليها. فور وصولنا لمنعه قررنا ركن السيارة والنزول عند مدخل الدشرة القديمة (هقليعث) التي تجذب هندستها المعمارية أنظار الزائرين وتدعوك من بعيد لدخولها وهو ما شدنا إليها، وما إن خطونا خطوات حتى استقبلنا شابين من أهل القرية يحملان شارات العضوية في جمعية "ثافسوث" وهما يعملان إلى جانب شباب آخرين كدليل مرافق للزوار الذين يأتون للمشاركة في احتفالية مهرجان الربيع، لننطلق بعدها في سيرنا باتجاه الدشرة القديمة رفقة كل من شهر الدين وعاشور اللذين رافقانا في جولة داخل الدشرة المتشعبة المسالك في مرتفع جبلي. وتشبه أزقة الدشرة إلى حد كبير مدينة القصبة العتيقة بالعاصمة في هندستها، حيث أن الدشرة القديمة وبحسب مرافقينا أنجزت منذ ما يزيد عن 10 قرون، والمتأمل لطريقة تشييد الدشرة سيدرك حتما مدى قدرة الإنسان الذي بنى مساكنها في تلك الفترة على التكيف مع طبيعته . فالدشرة القديمة عبارة عن مساكن مشيدة من مواد بناء محلية أساسها الطين وهو ما جعلها تبدو وكأنها امتدادا للطبيعة وجزء منها تعكس لوحة جمالية تشاهدها من على مسافة بعيدة، كما تعكس تصاميم مساكنها من نوافذ وأبواب وأروقة هندسة راقية تثير الإعجاب وتنم عن مدى رقي التفكير لدى مصمميها لأنها أنجزت على تفاصيل دقيقة، بحيث كان يجيبنا المرافقين عن أسئلتنا حول دور كل جزء من الدشرة فذاك باب صغير أنجز في ذلك الركن كمخزن للمؤونة وتلك النافذة تسمح بإطلالة الشمس من جوانب عدة، وحتى شوك التين الهندي له دور فهو يحيط على أجزاء من الدشرة ليس صدفة بل أن دوره يتمثل في حراسة المنازل بعد أن غرسه السكان عمدا. هقليعث تتزين ابتهاجا بحلول الربيع واصلنا سيرنا في أزقة الدشرة منبهرين بهندستها المعمارية من جهة وبحفاوة استقبال سكانها من جهة أخرى والذين خرجوا جميعا للمشاركة في تظاهرة "ثافسوث"، فأخرجت ربات البيوت الزرابي والأفرشة المزركشة الألوان على الشرفات والسطوح ابتهاجا بحلول الربيع، وكأن الدشرة ترتدي بذلة العيد وأقامت عائلات معارضا لأواني وأغراض وأكلات تقليدية. وكانت كل العائلات التي نمر بها ترحب بنا لمشاركتها الاحتفال، حيث توقفنا عند منزل الشيخ بوسليت أحمد الذي أقام معرضا أمام منزله وراح يقدم لنا شروحات عن تلك الأغراض التي استعملها السكان منذ القدم، ومنها الملحفة التي ترتديها المرأة الشاوية . وأبرز محدثنا الهدف من وضع ألوان في أسفلها، بحيث تُبين ما إن كانت المرأة متزوجة أم لا أو مطلقة، كما أبرز المتحدث أبعاد الاحتفال بحلول الربيع موضحا بأنه مناسبة للصلح بين المتعادين وأضاف بأن الاحتفال بالربيع له مدلول فلاحي أيضا بحيث يعني للعائلات فصل جني الخيرات من الثمار، وبعد أن أفادنا الحاج أحمد بالمعلومات توقفنا مرة أخرى وكانت المحطة عند الحاجة "بليلة" التي جذبنا إليها الديكور الذي تزين به منزلها وكذا لباسها الشاوي التقليدي ورغم تقدمها في السن حيث تبلغ من العمر 90 سنة إلا أن الحاجة "بليلة" لا تزال تتذكر العادات والتقاليد الخاصة بالاحتفال بفصل الربيع حيث راحت تسرد لنا كل صغيرة وكبيرة عن طريقة الاحتفال، وقادنا بعد ذلك دليلنا عاشور إلى أحد المنازل الذي كان مخبأ للمجاهدين إبان الثورة التحريرية وهو منزل احتمى به أب الثورة الشهيد البطل مصطفى بن بولعيد إلى جانب عدد من المجاهدين. أكلة الشخشوخة ولعبة "ثاكورث" للاحتفال بالربيع عندما نزلنا ضيوفا عند الحاجة "بليلة" استحضرت ذاكرتها عن طريقة الاحتفال في الماضي والحاضر بحلول الربيع، وقالت لنا بأن الشخشوخة كطبق للأكل إضافة للعبة "ثاكورث" (تشبه لعبة الهوكي حاليا) لا تزالان حاضرتان وتمنت هذه الجدة حفاظ الأجيال على هذه العادات، وهذا قبل أن نغادرها لمواصلة حضور مختلف فعاليات الاحتفال. وقد غادرنا الدشرة القديمة وتناولنا وجبة الغداء في مدرسة ابتدائية كان جميع سكان البلدية والضيوف مدعوين لها لتناول طبق شخشوخة الكسرة اليابسة في وليمة كبيرة حضرها الصغير والكبير وسط أجواء بهيجة، وقبلها كانت المحطة بالملعب البلدي الذي احتضن مسابقات في لعبة "ثاكورث" التي مارسها سكان المنطقة منذ قرون و هي تشبه تماما لعبة الهوكي حيث تعتمد على كرة مصنوعة من جريد النخيل وقطع ألواح خشبية يحملها اللاعبون لجر تلك الكرة وتجري اللعبة بين فريقين وتقام كلما حلَ الربيع. زيارة زاوية الشيخ بن عباس تخلل برنامج الاحتفال بمهرجان "ثافسوث" زيارة زاوية الشيخ بن عباس في الدشرة القديمة أيضا، وهي الزاوية المنتمية للطريقة القادرية التي تأسست منذ أزيد من ثمانية قرون ويشرف عليها حاليا عائلات تنحدر من سلالة الشيخ بن عباس الذي استقر بمنعه، وبحسب أحد الشيوخ من أعيان المنطقة الذين التقيناهم فإن الزاوية لا تزال منارة لتحفيظ القرآن، إضافة لزاوية سيدي موسى التي شيدت أول مسجد بالقرية يعود تاريخه لأزيد من 07 قرون. وعلى غرار ما سبق قمنا بزيارة مقصورة أولاد بن عباس (دار الشيخ) التي يتواجد بها 10 أضرحة لأئمة من سلالة أولاد عباس هم من الأولياء الصالحين، إضافة لتواجد ضريحين بالمقصورة هما من أبناء أحمد باي قائد المقاومة الشعبية في الشرق الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي، وبحسب مرجع تاريخي موثق معلق في لوحة بالمقصورة فإن ابني أحمد باي هما محمد وشريف البالغين من العمر 05 و13 سنة توفيا بسبب مرض وكان والدهما أحمد باي قد لجأ إلى منطقة منعه بالأوراس للاحتماء والتحصن رفقة 500 فارس بعد سقوط قسنطينة ومكث مع عائلته بالمنطقة سنة 1860. تاسريفت ... طبيعة عذراء بحاجة للاستثمار السياحي بعد وجبة الغداء كانت لنا محطة أخرى ضمن فعاليات الاحتفال بحلول الربيع وكانت الوجهة لزيارة منطقة تاسريفت التي لا تبعد بمسافة طويلة عن مقر التجمع السكني بمنعه وهي طبيعة عذراء سحرنا جمالها فهي تتشكل من جبال صخرية متقاطعة لونها يميل للأرجواني وفي سفح هذه الجبال تمر مياه واد منعه التي تنبع من تحت الأرض وتمر أيضا بشلال طبيعي وسط الواد وعلى الأطراف سواقي تمتد للبساتين المترامية على ضفاف الوادي والتي تثمر كل الخيرات. وفي هذا المكان رافقنا شاب آخر هو كمال والذي يشتغل في شركة بترولية بالصحراء حيث استغل عطلته للمشاركة في مهرجان "ثافسوث" الذي يمثل بالنسبة إليه وكما كل شباب المنطقة إرثا يجب المحافظة عليه وهو ما ذهب إليه رئيس البلدية مزاتي بلعيد مؤكدا بأن المنطقة تتمتع بمؤهلات سياحية بحاجة إلى الاستثمار فيها حتى تصبح قطبا سياحيا.