الكثير من التربويين اليوم في حاجة إلى إعادة التربية و التوجيه قال عميد المدرسين و المدراء بقسنطينة الأستاذ المتقاعد مصطفى بوغابة (87سنة) أن إنقاذ المنظومة التربوية مرهون بحملة تنظيف واسعة تستوجب بداية التخلص من المخلفات السلبية المكتسبة طيلة أجيال، و على رأسها انعدام الانضباط عند المعلمين و المسؤولين قبل التلاميذ، ليعود المركب إلى ميناء التربية قبل التعليم، و عليه فإن أي إصلاح جاد و حقيقي لا بد أن يبدأ مع نشأ جديد و لا محاولة إصلاح ما لا يمكن إصلاحه في تقديره، مضيفا بأن الكثير من التربويين اليوم في حاجة إلى تربية و توجيه ليتسنى لهم أداء واجبهم على أحسن وجه. و أضاف الأستاذ المتقاعد الذي استقبلنا ببيته الأشبه بالمتحف لما يزخر به من صور تذكارية و لوحات مع علماء و مجاهدين و شهداء العلم و الوطن بأن المسؤولية الأولى تقع على كاهل المعلم مستعيدا موقفا عاشه عندما كان على رأس إحدى الثانويات بقسنطينة أين التحق بطاقمه أستاذ شاب لم يولي منذ وصوله اهتماما لهندامه، حيث كان يطوي سرواله في الأسفل و كذا كم القميص فاستدعاه إلى مكتبه كما قال و نبهه إلى أهمية الهيئة و الهندام و دورهما في هيبة المدرّس باستخدام مجموعة من الأمثال ك"لباسك يرفعك قبل الجلوس و لسانك بعده"...و خرج الأستاذ المتعاقد من المكتب دون أن يأخذ ملاحظات مديره بعين الاعتبار، و استمر في عادته إلى أن شب شجار حاد بينه و بين أحد طلبته في أول حادثة تسجلها المؤسسة من هذا النوع، و أصبح المدرّس كلما التقى به يحييه تقديرا و إعجابا بخبرته و بعد نظره. و تذكر الأستاذ المتقاعد المتمدرس على يد خيرة تلاميذ العلامة عبد الحميد ابن باديس منهم بلعابد و الغسيري و محمد الصالح رمضان و مزهودي و علي مرحوم و الطيّب عيلان كيف أن المتعلّم في زمنهم كان يأخذ من كل شيء بطرف و يكون أكثر مهارة في مجال تخصصه. و عاد بذكرياته إلى أيام طفولته بمسقط رأسه قسنطينة و مكان طفولته بحي البارود"بودريار"سابقا أين تعلّم القرآن الكريم بحي المنية قبل أن يلتحق بالتربية و التعليم بوساطة من والد الشهيد صالح بوذراع الحاج أحمد بوذراع المعروف ب "بن حيمود" الذي أقنع والده بمنحه فرصة التعلم مع تلاميذ الشيخ عبد الحميد ابن باديس الذي كان يعطي دروسا صباحية و أخرى مسائية حتى لا يكون مصيره العمل بالبستنة، فكان له الحظ في التعلّم على يد الأستاذ محمد بلعابد و لقبه الحقيقي سماتي الذي قال عنه أنه أول معلّم صعد الجبل بقسنطينة، معبّرا عن فخره و اعتزازه بوطنية هؤلاء و ما غرسوه فيهم من مبادئ و قيم جعلت منهم ما هم عليه اليوم مثال يقتدى به في الأخلاق و النبل. و لا يكف محدثنا عن الحث على الاجتهاد و الأمانة معتبرا التعليم رسالة و أمانة في أعناق كل من اختار هذه المهنة النبيلة التي قال أنها تعرف تقهقرا مستمرا و تسيبا كبيرا لا يبعث على التفاؤل بعد أن ضاعت أهم شروطها الانضباط فعمت الفوضى و تحوّل التدريس إلى مجرّد نشاط يمارس لأجل الكسب و ضمان دخل شهري. و بخبرته الطويلة و المفعمة باللقاءات المثيرة مع شخصيات سجل التاريخ اسمها بحروف من ذهب كالشيخ بشير الابراهيمي الذي كان له حظ العودة معه من مصر إلى الجزائر بعد وعكة صحية اضطرته للعودة للوطن، لم يغفل الأستاذ بوغابة دور الإيمان برسالة أو قضية ما لتحقيق المبتغى. و ناشد المعلمين الجدد بالاقتداء بالرعيل الأول و من سبقوهم في مجال التعليم و تربية النشء، متذكرا كيف أن مدرسيهم كانوا يفتحون بيوتهم لطلبتهم الراغبين في التكوين و التحصيل العلمي و عدم الاكتفاء بما يقدمونه في حصصهم المقررة، فكانوا نعم الآباء و المربين و المعلمين.و الحديث مع الأستاذ المخضرم أشبه بسفر بين محطات الحياة و خبراتها و تجاربه العديدة التي لا يمكن حصرها في مجرّد مقال لثرائها بالمواقف و المعلومات التاريخية المهمة التي كان شاهدا عليها، أو على اطلاع كثيف بها. بدء بتجربته في التربية و التعليم و الاحتكاك بخيرة تلاميذ العلامة ابن باديس و المجاهدين و فوزه بفرصة متابعة دراسته بجامع الزيتونة بين سنتي 1947و 1951التي استرجع معها ذكريات تعكس تعطش طلبة الأمس للمعارف و المطالعة، معرّجا على يومياته بمكتبة العطارين و كيف كان يقضي معظم أوقات فراغه بهذه المكتبة العريقة بحثا عن المزيد من المعارف و جمع المعلومات التي يطلبها منهم أساتذتهم لعدم استطاعتهم اقتناء الكتب المطلوبة لأن المال الذي كان يرسله لهم أهلهم آنذاك لم يكن يصلهم دائما، فكانوا يضطرون للعمل لساعات طويلة بمكتبة العطارين، قبل عودته إلى الجزائر أين تم توظيفه كمدرس بولاية سطيف، ثم معلما في معهد التربية والتعليم، ليتم استدعاؤه سنة 1953 في معهد ابن باديس، حيث عمل هناك إلى غاية 1956، قبل أن يلتحق بالمجاهدين بالجبل. و من المحطات المهمة التي أصر محدثنا التوقف عندها سفره إلى مصر أين أصيب بمرض خطير لم يكتشف أعراضه و لا أسبابه إلا بعد سنوات طويلة من المعاناة و الألم اضطره للعودة للوطن و الابتعاد عن العمل، ليكتشف و هو يعيد أحد الأطباء المختصين الماهرين بأن مرضه الصدري ناجم عن مادة استنشقها، ليتذكر رائحة الطلاء الذي عبقت رائحته الأرضيات الخشبية التي كانت تحيط بمكان إقامته بمصر. و تتواصل ذكريات مصطفى بوغابة بين مغامراته مع رفاق الكفاح و زملاء الدراسة و المهام الوطنية التي حملته إلى برلين أين اكتسب خبرات أكبر في العمل النقابي و النضالي عموما، و بين حياته كرب عائلة، مستعيدا ذكرياته مع زوجته رقية بوغابة التي منحته شرف مصاهرة أحد أعمدة الإصلاح في الجزائر الشيخ العربي التبسي، مشيدا بنبل أخلاقها و وطنيتها فاستحقت عن جدارة تخليد اسمها، بإطلاقه على إحدى المتوسطات بقسنطينة. و تذكر كيف أن رفيقه المجاهد محمد الميلي الذي ارتبط بزينب ابنة الشيخ العربي التبسي ، ساعده في اختيار زوجته باقتراح نسيبته رقية زوجة له. و إن كان محدثنا قد ترّدد في البداية في مقابلتنا خشية أن تخونه ذاكرته فيقع دون قصد في أخطاء عفوية، إلا أنه أثار إعجابنا بقوة ذاكرته و سرعة بديهته و هو ينتقل من مرحلة إلى أخرى و من محطة إلى ثانية مصرا على ذكر أدق التفاصيل و الأسماء حتى لا ينسى أحدا من الشخصيات الكثيرة التي ربطته علاقة مهنية أو صداقة أو لقاءات كان لها صدى كبيرا و تأثيرا مهما في حياته طيلة عهود من الزمن لا زال يتذكر منها و بفخر كبير لقاءه بالأئمة الغزالي و البوطي و العشماوي...و سلسلة طويلة من أسماء لا تمحي السنين صورها من ذاكرته التي أكد أنه يقويها بكثرة المطالعة و تصفح ألبومات صوره الكثيرة و الحديث عنها كلما سنحت له الفرصة لفعل ذلك. و إن كان الكثير من الموظفين ينسون بمجرّد تقاعدهم فإن المعلّم يبقى في الذاكرة، و يبقى له الأثر الواضح في نجاح الكثير من تلاميذه كما هو شأن الأستاذ مصطفى بوغابة الذي تخرّجت من مدارسه شخصيات ناجحة في شتى المجالات من دكاترة و باحثين و سياسيين ذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر رئيس الوزراء الحالي عبد المالك سلال.