اختلافي مع كامو سياسي لا أخلاقي صديقي الكبير الأستاذ عبد القادر، أجدُني مُلزما، أولا، بواجب التنويه بالمستوى الرَّاقي والعالي الذي تمثلهُ كتاباتك ونقاشاتك وتدخلاتك الفكرية. وأكادُ أقول إنَّ هذا المُستوى ينعدمُ في الجزائر اليوم ولا نكادُ نعثرُ له على أثر في ما يكتبهُ الكتابُ والمثقفون منذ عشريات. وربما يرجعُ هذا الأمر، في بعض وجوهه، إلى غياب المثقف النقديّ الذي يلتزمُ بالتدخل في الشأن العام، ثقافيا كان أو سياسيا، باعتباره صوتا يجهرُ بالحقيقة العارية من ضغط التمذهب الإيديولوجيّ الضيق واستراتيجيات مُراعاة المصلحة ومُقتضيات المرحلة. لقد شعرتُ، صديقي الكبير، وأنا أقرأ ردَّك على رسالتي المُوجهة إلى ألبير كامو في مئويته أنني أمام ماردٍ ثقافيّ يستحقُ كل الاحترام. وصراحة لا يمنعُني اختلافي معك في بعض التفاصيل أو في الموقف الثقافي من الإشادة بقوة تفكيرك ونفاذ بصيرتك. إنَّ رسالتك الباذخة الموجَّهة إليَّ تستحقُ، رُبَّما، وقفة مُطولة ونقاشا مُوسَّعا ولكنني سأقتصرُ في ردّي هذا على أمرين أحبّ أن أركز عليهما رفعا لكل لبس في ما يتعلقُ بالموقف العام من شخصية فكرية وأدبية إشكالية مثل ألبير كامو. وأحبّ أن أنبّهَ، بادئا، إلى أنَّ الحديث عن هذا الكاتب لا يُضمرُ عندنا حنينا إلى الكولونيالية كما يذهبُ إلى ذلك الكثيرُ من كتابنا الذين يرون فيه «حصان طروادة» يستخدمهُ الاستعمارُ الجديدُ مدخلا ثقافيا للمُصالحة مع الجلاد السابق أو لتكميم الأنين التاريخيّ الطافح من ذاكرة وطنية لم يتوقف نزيفها بعدُ. الاستعمارُ مُدانٌ دائما؛ ولا يُمكنُ لمُثقفٍ يلتزمُ بقضايا الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية أن يتورَّط في خطابٍ يُبرّرُ بأيّ شكل من الأشكال هيمنة القوة العمياء على مصائر الشعوب والأمم. نحنُ لا نختلفُ في هذا مُطلقا. أحمد دلباني لقد كتبتَ رسالتك العظيمة، صديقي الكبير، على ما أعتقدُ مُتسائلا حول أمرين لا يتعلقان بفلسفة كامو أو بمُنجزه الإبداعيِّ وإنما بشرعية حُضوره بيننا اليوم في نقاشاتنا. لقد هالك أن يُستعادَ كامو بالذات في مئويته وهو الكاتبُ الكولونيالي الذي لم يُؤيِّد مسعى الجزائر المُستعمرة في الاستقلال السياسيّ. كما رأيتَ في وصفي لهذا الكاتب بالصَّديق، رُبَّما، نوعا من الشطط الأخلاقيّ الذي يُغدقُ على كاتب ناضل من أجل «الجزائر الفرنسية» ما لا يستحقّ من الأوصاف والتوقير. أحترمُ رأيك صديقي عبد القادر كثيرًا ولكنني أذهبُ مذهبا آخر في النظر إلى الأمور. فأنا لم أستحضر كامو في رسالتي المُطوَّلة من أجل أن أقفز على ذاكرة طافحة بالعذابات المُرتبطة بالاستعمار، وإنما من أجل مُحاولة الانفتاح من جديدٍ على أسئلة الذاكرة المُنقسمة على نفسها مُبتعدًا عن تشنج القراءات الأحادية النظر، ومُراجعا مسارَ مُثقفٍ غربيّ الانتماء ظل – رغم نزعته الإنسانية الواضحة – حبيسا لمُحدّدات الحداثة الكلاسيكية في النظر إلى الآخر نظرة لا تخرجُ عن مركزية الغرب الظافر تاريخيا وهو يفيضُ ب «أنواره» على العالم المفتوح في صورة استتباع وإخضاع. إنَّ كامو يرتبط بتاريخي الخاص وهو يُمثل رؤية فلسفية / سياسية طرحت مشروعها من أجل الخروج من مأزق الكولونيالية التاريخيّ الذي أدركهُ سن اليأس بعد انتفاضة الأطراف والهوامش. لقد نظرتُ إلى كامو من هذه الزاوية وأنا أكتبُ رسالتي إليه. كان همّي أن أنقدَ بقايا النرجسية الثقافية في خطاب الأنتلجنسيا الغربية وانحباسَها داخل نظرة استعلائية للآخر المُختلف. لم أكن لأسقط في أحبولة من يريدُ تقديمَهُ في صورة جسر يصلُ بين الجلاد وساكن الزنزانة، أو في صورة مشروع مُصالحةٍ بين قابيل وهابيل. إنَّ ضغط الذاكرة ما زال حيا وقويا في جهتي المُتوسّط، وما زال ترميمُ ذلك الأمر بين الضفتين يتطلبُ وقتا واعترافا من الجلاد التاريخيّ بسقوطه الأخلاقيّ والفكريّ والسياسيّ منذ حادَ عن قيم الحداثة التي بوَّأتهُ مكانا عليا في نظام الحضارة الحديثة. ما زال ينتظرُنا عمل كبيرٌ من أجل لملمة أوصال التاريخ المُتوسِّطي والتأسيس لتاريخ مُتضامن بين الشعوب بعيدًا عن «جدار برلين» الإيديولوجيّ / التاريخي كما حلم بذلك البروفيسور محمد أركون. ولكنني بالمقابل، صديقي عبد القادر، أردتُ ألا أقعَ أيضا في خطاب التسفيه المجانيِّ وغير العارف بمكانة كامو وحقيقة مواقفه وأبعادها الأخلاقية العظيمة التي لا يُمكنُ أن تُنكَر. إنَّ ما يُميّزُ هذا الكاتب هو وقوفهُ على ذروة أخلاقية منيعةٍ خارج ما ساد في عصره من تمذهب إيديولوجيّ مُغلق كان يُبرِّرُ، أحيانا، سحقَ الإنسان وتدجينَهُ باسم اليوتوبيا الثورية. لقد عاش كامو في عصر شهدَ ظهورَ الأديان العلمانية الكبرى التي قادت الإنسانَ إلى جلجلة المحو تحقيقا لإرادة الحتمية التاريخيَّة العليا وقد أصبحت آلهة جديدة. كان انتظارُ «الصَّباحات التي تغني» مُبرِّرًا عند الكثيرين لوأد الحرية ونمذجة الفكر وجعل الغولاغ مكانا طبيعيا لزنادقة العصر من الذين رفضوا الانصياعَ للنبوءات الجديدة وهي تبني طريقَ الخلاص التاريخيّ بالجماجم. إنَّ كامو - الذي رفض اليوتوبيا باسم الحياة ووعودَ الأناجيل الدنيوية باسم الحاضر الناتئ المليء - لم يكن ليقعَ، نظيرَ سارتر مثلا، في تبرير سحق الإنسان أو الصمت أمام فظائع الأنظمة الشمولية وهي تعِدُ بمجيء الفراديس الوهمية. لم يقبل بالغايات البعيدة التي تقودُ إليها وسائل إجرامية رهيبة. لقد كان أسيرًا لشمس الحاضر وثملا بغبطة الحرية الفادحة تحت «السَّماء الفارغة». كان يقفُ إلى جانب الإنسان لا النظرية. وحتى إن كان سارتر قد سحَر الكثيرَ من الجزائريين بمواقفه الرَّاديكالية البطولية، وبمُعارضته الشجاعة لمنظومة العنصرية الكولونيالية فإنَّ ذلك يجبُ ألا يُنسينا أنهُ خرج من رحم المنظومة الفكرية الثورية في تلوينها الماركسيّ، وهي ذاتُ المنظومة النظرية التي جعلتهُ يسكتُ عن انتهاكات الستالينية في بلدان أخرى. أليس كذلك؟ رُبَّما كان الإخلاصُ للنظرية أعظمَ من الإخلاص للإنسان عند مُفكري النظرية الثورية. لقد كانوا يحملون الدوغماتية الفكرية العمياءَ ومُحتشداتِ الاعتقال في أذهانهم. أما كامو فأعتقدُ – من هذه الزاوية – أنه استطاع التخلص من الوقوع في شرك تبرير الجريمة التي مُورست على الإنسان بصورة منهجية. لقد رفض النظرية وساورهُ شك عميقٌ في قدرة الثورة التاريخية على تحقيق خلاص الإنسان من اغترابه التاريخي. كان مسكونا بالحاضر ولم يستطع أن يُفكر في تقديمه قربانا على مذبح الوعود الزائفة. من هنا نفهمُ دفاعهُ عن الحاضر الكولونيالي ورغبتَه المحمُومة في إصلاح ما يُمكنُ إصلاحه. هذا ما كان في إمكانه وهو يعيشُ التراجيديا الجزائرية باعتبارها قضيته ومن داخل المسرح الدَّامي، لا بوصفه مُتفرِّجا أو مُتعاطفا باسم القيم التي أصابها الابتذال عند مُثقفي المواقف الجاهزة والمُعلبة. كان يُفكِّرُ في أمِّه التي تعيشُ بين «العرب» في مدينة الجزائر. كان يريدُ إصلاح اللحظة لا الانقلاب عليها وذلك باسم قيم العدالة والكرامة الإنسانية، وباسم حبِّه للجزائر التي ظل يعتبرُها بلادَه الأثيرة كما نعلم جميعا. إنَّ قراءة واعية بصيرة لأعمال كامو وكتاباته حول الجزائر كفيلة بأن توضحَ الكثيرَ من الأمور. هو لم يكن، بالطبع، ثوريا أو صاحبَ فكر انقلابيّ قد يغتبط بتهديم قلعة الحاضر، وإنما حاول جاهدًا أن يُنقذ حاضرَهُ الكولونيالي بالتفكير في جعل الجزائر بيتا مُشتركا بين المُعمِّرين والجزائريين. كان يحلمُ بعدالةٍ تحققُ المُساواة وتُخرجُ أبناءَ شعبي من وضع الأهالي بتصحيح مسار الدولة الكولونيالية وجعلها تنفتحُ على المُهمَّشين وضحايا الاستعمار التقليدي. وقد فكر فعلا في ضرورة العمل من أجل نهاية الاستعمار لا خروج فرنسا من الجزائر. ورغم تنديده الواضح بالمُمارسات والأساليب الاستعمارية ونظام التمييز والقهر إلا أنه لم يتجاوز هذا الأمر إلى المُطالبة باستقلال الجزائر. لم يكتب كامو مديحَ إشادة بفتح الأندلس ولكنه عمل ما بوسعهِ كي لا تكون الأندلس، يوما ما، فردوسا مفقودًا. هذه هي مُشكلته. كأنَّ الاستعمار آنذاك كان بإمكانه أن يتجاوز نفسهُ بتحقيق المُساواة بين سكان الجزائر على اختلافهم وإلحاقهم بفرنسا الأم. كان هذا حلما كامويا أثيرًا اعتقد كاتبنا أنهُ يحققُ الحدَّ الأدنى من العدالة المطلوبة في وضع مُعقّدٍ كالذي عرفتهُ الجزائر آنذاك بتركيبتها السكانية ووضعها الاستراتيجي بالنسبة لفرنسا وبالنسبة للغرب الليبرالي الذي وجد نفسهُ في مُواجهة المدّ الشيوعي السوفيتي. لم يكن كامو جاهزا للاعتراف بشرعية الثورة على بقايا النظام الأمبراطوريِّ العنصريِّ في فعل انعتاق للآخر الذي لم يكتسب، حتى تلك اللحظة، حقَّ الوجود الكامل أو حقَّ الخروج من وصاية وضع كرَّسهُ عنفُ التاريخ الاستعماري. هذا يعني، صديقي عبد القادر، أنَّ اختلافي مع كامو كان ويظل اختلافا سياسيا لا اختلافا أخلاقيا. لقد اختلفنا حول مصير الجزائر ومُستقبلها ولكننا لم نختلف حول مبادئ العدالة والكرامة البشرية والحرية وعدم شرعية قتل الإنسان تحت أي ظرف وأيا كانت الأسبابُ والغايات. اختلفنا حول الصِّيغ التي تضمنُ وضعا أفضل للإنسان وهو يرثُ وضعا تاريخيا إشكاليا، ولم نختلف حول القيم التي تضعُ الإنسان فوق النظرية وفوق ما يُمكنُ أن يُبرِّرَ سحقه من اعتبارات. إنَّ كامو – وهذا ما يجعلني أعتبرهُ صديقا – لم يدعُ إلى قتل أمي ولم يُبرِّر قتلها أبدًا. هذا هو الأهم. ولكنني اختلفتُ معهُ سياسيا عندما فكر في إصلاح الأوضاع بتحسين وضع أمي ونقلها من وضع الجارية المُستباحة إلى وضع المرأة الحُرَّة الكريمة ولكن داخل القصر الأمبراطوريِّ العتيق ذاته. هذه هي حدُودُ فكره السياسيّ الذي لم يكن مُتناغما مع لحظته التاريخية والعالمُ يشهدُ تفككَ العصر الأمبراطوري ويقظة القوميات والهويَّات التي عانت طويلا من الطمس تحت سنابك الاستعمار. لعلك تعرفُ، صديقي عبد القادر، أنَّ كامو نفسه كتب رسائلَ ذائعة إلى الألمانيّ النازي الذي احتل بلادهُ، ولم يتحرَّج من مخاطبته باعتباره صديقا ورثَ معه عدمية الحضارة التي فقدت العلوَّ، ولكنه اختلف معهُ باحثا بحرقةٍ عن العدالة في عالم اللاعدالة الأبدية. كان الاختلافُ كبيرًا ويطال المبادئ نفسَها ومع ذلك ظل كامو أريحيا وواثقا من انتصار الحياة على غريزة الموت والتدمير واليأس في عالم أضاع المرجعيات المُتعالية التي كانت تضمنُ عصمة القيم في الماضي. وأنا، شخصيا، لم أكن لأعتبرَهُ صديقا لو رأيتُ ملمحا واحدًا في كتاباته يدعو إلى قتل أمي أو تبرير استعبادها واضطهادها. والمعروفُ أنه لم يسقط في هذا وهنا تكمنُ بطولته الأخلاقية التي حاد عنها المذهبيون وهم يلوذون بالنظرية ويُشيحون بوجوههم عن الإنسان. هذا ما جعلني أعلن اختلافي السياسي مع كامو وهو اختلافٌ لا يُمكنهُ أن ينسفَ جسور التواصل بيننا بصورة نهائية. فالأهم هو الأساسُ الأخلاقيّ لخطابه الذي استطاع أن يصمدَ أمام امتحان الزمن والتاريخ، وهو ما تُفسِّرهُ، اليوم، العودة إلى استلهام فكره وحكمته في عالم أفاق على زيف اليوتوبيا التاريخية التي طالما برَّرت تغييب الناسوت احتفاءً بلاهوت التعالي التاريخي للنظرية الشمولية.