عصافير شارع بلوزداد تعيد الحركة إلى سوق "تحت القنطرة" اختفى الرجال الذين كانوا يقفون على طول المدخل المتفرع من بوابة حي السويقة والمؤدي إلى أسفل قنطرة سيدي راشد،المعروف ب"تحت القنطرة"،وهم يحملون في أياديهم وعلى أكتافهم ملابس مستعملة يعرضونها للبيع، على طريقة الدلالة،بعد أن حصلوا عليها من مقايضة الأواني المنزلية بالثياب القديمة،الحرفة التي كان يمارسها عادة سكان الأحياء الهامشية، ممن وفدوا حديثا على عاصمة الشرق قسنطينة،من قرى و مداشر الولايات المجاورة، و كان الكثير منهم يبيعون تلك الثياب بالجملة إلى تجار ذلك السوق على مدار سنوات طويلة . و ها هي السلع المستوردة من الصين و المصنوعة محليا تعوض القديمة، لتشكل اليوم النشاط رقم واحد لمئات الشباب الذين يشكلون امتدادات أخطبوطية عبر معظم شوارع المدينة المتفرعة من رحبة الجمال، مركز تلك التجارة،هذا ما وقفنا عليه مؤخرا ونحن نزور المكان بعد غياب أكثر من عشريتين قضت خلالها على نشاطه العشرية السوداء والانفلات الأمني، فتحول إلى مرتع لكل شيء غير مستباح و وكر للمنحرفين. أخيرا عادت الحركة إلى أعرق سوق للسلع القديمة و المستهلكة في مدينة قسنطينة و ذلك بعد أن اتخذت البلدية قرار تحويل سوق العصافير الصغيرة من مدخل شارع بلوزداد وسط المدينة إلى منحدر مهيأ متفرع عن ساحة كركري في رأس القنطرة يربطه بقلب سوق تحت القنطرة. القرار أتاح لتجار السوق الفرصة لتكسير الجمود و الركود و استرجاع الحركة و العودة تدريجيا إلى نشاطهم، فعاد السوق إلى سابق عهده مع اختفاء أنشطة وظهور أخرى لمواكبة خصائص العصر،وقد تسبب ذلك في حركة كبيرة جدا تتضاعف أيام الراحة والعطل،و يعتبر المرور إليه من أهم مسارات زوار المدينة ممن يعرفون زواياها وأسواقها و الباحثين الكثيرين عن السلع القديمة والمفقودة في محلات المدينة. البول على الجدران وأطنان النفايات في استقبال زوار السوق ونحن ننزل إلى سوق تحت القنطرة ، أول ما لفت نظرنا من جهة اليسار،أن معظم محلات الحرفيين الذين كانوا يمارسون سابقا مختلف النشاطات المرتبطة بالسوق قد أغلقت وتحولت إلى مخازن لسلع الناشطين الجدد لكن الحركة في السوق تتوقف في منتصف النهار كالعادة . المقهى الوحيد استعاد نشاطه و لبس حلة جديدة تدل على حركة نشيطة في السوق الذي حافظ زواره والعاملين فيه على عادة البول على جدران وأسس الجسر، فتشكلت بركا تسيل عبر السلالم الحجرية التي لا يمر عبرها مرتادو السوق لقذارتها و قد تكدست قريبا منها أسفل آخر قوس لجسر سيدي راشد أطنان من النفايات لأجسام صلبة و بلاستيكية وعبوات الخمر على اختلاف أحجامها وأنواعها الزجاجية منها والمعدنية. على اليسار اختفت تجارة الأثاث المنزلي المستعمل داخل سوق الخشابين الذي يحفه جدار مازال قائما،ومعه بائع تحف قديمة،و أجهزة الراديو الخشبية والنحاس القديم،وحلت بدل ذلك سلع أخرى مستعملة. من يقصد هذا السوق لا يعود خائبا يعرض التجار فوق قماش، من نوع "الباش"يفرشونه على الأرض كل ما يتخلى عنه المواطنون بعد استعماله، و لا نأبه له في طريقنا،فيجمعونه و يجعلون منه تجارتهم و رأس مالهم،على غرار غلاف خلاط من علامة مميزة، وذراع أداة مطبخ، إضافة إلى بعض قطع غيار آلات الطحن والعصر وكي الملابس التي قد لا نجدها في محلات تسويقها جديدة،فيقصد المحتاجون إليها المكان لبعث الروح في وسائل و أغراض يحتفظون بها كذكرى أو وصلت إليهم من عزيز ولا يحبون التخلي عنها،وقد تلف منها ما حال دون استعمالها على شرط أن يحملها معه ليبتاعها بالضمان،أو يعاد إصلاحها أمام أعين صاحبها كل ذلك مقابل سعر رمزي، وقد جلب انتباهنا أثناء جولتنا، من يبحث عن زر لمئزر، أو سترة بين أكوام من الألبسة على اختلاف أنواعها وألوانها،و أحجامها، فمعظم من يقصد السوق لا يعود خائبا، لأنه سيعثر لا محالة على حاجته. تعرض أكوام من الأقراص المضغوطة على اختلاف محتوياتها ب50 دج للقرص في وقت تصل فيه في المحلات المتخصصة،مابين 120دج و300دج وبالضمان على حد تعبير المسوقين لها والذي يقسمون بأغلظ الإيمان بأنها صالحة وجديدة ويذكرون مناقب كثيرة جدا لها . نفس الأسعار الزهيدة تعرض الهواتف النقالة التي طغت على المشهد في السوق لكثرة الناشطين فيها،أين يجد بعض الزبائن هياكل لهواتفهم القديمة من الجيل الأول.نفس الشيء بالنسبة لأجهزة الكمبيوتر المحمولة،القديمة منها والجديدة،التي تباع بالضمان ودون ذلك،بشرط ألا يسأل الزبون عن مصدر تلك البضاعة،فالمعاملات تتم في هدوء و تركيز و بثمن لا يمكن تصوره،قد يكون بنصف ما كشف عنه البائع،وقد يكون بأقل من ذلك،فهذا السوق يعتبره الكثير فرصة لاقتناء أدوات وتجهيزات بأسعار مخفضة جدا بغض النظر عن مصدرها. مجلات أدبية و فنية تعود لعشرات السنين يعرض تجار آخرون مجلات وكتب قديمة، تعود إلى بداية التسعينيات،على غرار مجلات "آمال" و "الثقافة" و "ألوان"و "الأصالة"، هذا بالنسبة للوطنية، وأخرى مشرقية أو صادرة في الغرب كما هو الشأن بالنسبة ل "الجيل" و "المستقبل" و "كل العرب"بالإضافة إلى "نوفال ابسورفتور"،و"باري ماتش"،الفرنسيتين وذلك مقابل 100 دج للمجموعة المتكونة من ثلاثة، أو أربعة أعداد. و يعثر رواد مطالعة الكلاسيكيات روايات جورجي زيدان و مؤلفات المنفلوطي، وميخائيل نعيمة، ونجيب محفوظ و كتبا أخرى بالفرنسية تخلص منها أصحابها بعد أن حلت المادة و القراءة الالكترونية على ما يبدو،محل الكلمات المطبوعة، ومن غريب ما صادفنا،صفقة موضوعها كتب وكراريس حول الخراطة وآلاتها. بائع الشاي يعود بإبريقه النحاسي الكبير عاد بائع الشاي الحار مع العائدين إلى السوق،وهو يحمل إبريقه النحاسي الأصفر الكبير عارضا خدماته بصوته الجهوري الذي تخالطه بحة من كثرة الصياح،وقد ألصق بأسفل الإبريق موقد "كانون" فحم، حتى يحافظ عليه ساخنا.الشيء الوحيد الذي تغير فيه،ثمنه من 1دج أو دينارين، إلى 10 دج للكوب،الذي أصبح ورقيا، بدل الزجاجي، منذ أكثر من عشريتين. بائع الشاي يقضي الصبيحة، متجولا في ذهاب و إياب لا يعرف سكونا إلا اللحظات التي يصب فيها كأس الشاي الحار لزبونه،ويعيد له الفكة "الصرف" مع تأكيده له بأنه حار. الساحر الذي يجلب الفواكه في غير موسمها يختفي من ركح السوق اختفى الساحر،الذي كان يضع على فرشته أشياء غريبة توهم بقدراته الخارقة على إحضار بعض الفواكه في غير موسمها قبل الانفتاح الاقتصادي،وتطور الزراعة بواسطة السحر.بل أنه يدعي أنه يستطيع تحويل الرجال إلى نساء، فيكثر من استخدام كلمات فيها طلاسم و يشرع في طلب ما تيسر من قطع الدنانير الخمسة،مقابل رؤية ما وعد به. كان ذلك يبدو عجيبا وغريبا في تلك الأيام، فتتهاطل على قفته الدنانير،ويواصل بدوره الحديث الذي لا ينقطع عن قدراته و كراماته.مؤكدا بأنه حول الأسبوع الماضي رجلا لم يصدق ما يقوم به من سحر إلى امرأة. فيندهش البعض و يضحك البعض الآخر و يستغرق في المماطلة إلى أن يتفرق الجمع الغفير،ويبقى بعض المصرين على رؤية البطيخ الأحمرعلى سبيل المثال في غير موسمه إلى آخر دقيقة من عمر السوق الذي كان ينفض عادة والشمس تكاد تصل كبد السماء.كان ذلك في بداية الثمانينيات. الرجل ذو الملامح الغريبة والصوت الجهوري المجلجل يضطر عنذئذ إلى إخراج عصاه و التلويح بها و هو يقول:" كيف تصدق رؤية "الدلاع"في عز الشتاء يا غبي؟". اختفى من المشهد أيضا حلاق السوق الذي كان يحلق لرواده والعاملين فيه لحاهم و شعورهم في مشهد مثير، يجلب انتباه المتسوقين، حيث يستعرض أدواته ومقصاته، ويجلس زبونه على كرسي خشبي وهو يمسك بالمرآة لمتابعة عملية الحلق مبديا ملاحظاته.كل ذلك في الهواء الطلق، في ظروف لا تتوفر فيها أدنى شروط النظافة، إلا أن يده لا تكف عن الحركة إلى آخر اللحظات من عمر السوق.كما اختفى منظر المتشردين الذين كانوا يعيشون في المكان و لم يعد لمأواهم المكون من الصفيح، والكارتون مكانا في منحدر يمين السوق.كان هؤلاء يصوبون نظراتهم و الشرر يتطاير من عيونهم إلى من حولهم وهم يتلفظون بالكلمات البذيئة و العنيفة إلى كل من يتجرأ ويتقاطع بصره مع بصرهم. غيابهم جعل المكان يبدو أكثر أمنا في ظل التوافد الكبير جدا للمتسوقين،على الرغم من أن أعوان الأمن لا ينزلون عادة إلى السوق الذي،يصبح جد خطير مساء خاصة بعد ترحيل معظم السكان المجاورين له بعد أن تهاوت منازلهم كحجارة "الدمنو" وتحولت إلى أطلال تسكنها البوم والحيات،ولم تفلح عمليات التجميل،التي مست واجهة الحي في إصلاح ما أفسده الزمن جراء تأخر العملية التي يخضع لها بعد أن استفحل،الداء. زقزقة العصافير تمتزج بصيحات الباعة مشكلة سمفونية السوق عصافير شارع بلوزداد التي كانت سببا في عودة الحياة إلى سوق تحت القنطرة، اتخذت من ربوته مكانا لها، وتعالى تغريدها حسب سنها ونوعها، فامتزجت معه أصوات الباعة والمتسوقين المنبعثة من أعماق المكان مشكلة سمفونية، تعزف بلحن الحياة العائدة إلى المكان بعد أن هجرته لما يقارب العشريتين،معلنة بأن الحياة يجب أن تستمر مهما حدث. تحت القنطرة عالم غريب وعجيب لا يمكن الإحاطة به في هذه السطور،فهو يحتاج إلى تدوين من المختصين لأنه عالم تتفاعل فيه كل عناصر الحياة وتتعايش فيه التناقضات، لأن الكل يعرف حقيقة المكان ونوع المعاملات فيه والظروف التي تبرم فيها الصفقات التي أقل ما يميزها انعدام الثقة بين طرفي عملية البيع،وكذا مصدر الكثير من السلع التي تباع بدنانير معدودة ومسوقوها من الزاهدين فيها .الأمر يتعلق بطابو مسكوت عنه ، يحرم البوح به،حرمة نزول المرأة إليه. تركنا المكان،الذي كان زمن الثورة ملجأ للفارين من الاستعمار،والمبحوث عنهم أين عاشوا دون هوية أو بأخرى مزورة إلى غاية الاستقلال،ونظرنا إليه من ساحة كركري،وهو في أوج ساعات استقطاب المتسوقين، في يوم مشمس وافق يوم عطلة السبت،مستعيذين من شرور الأسواق.