عن اضطهاد المختلف في كتابه " الإسلام والعقل"...معركة الأفكار" الصادر بالفرنسية عام 2005، يرى المفكر الجزائري "مالك شبل" أنّ المعتزلة كانوا أول المثقفين المنشقين في الإسلام. لقد أطلقوا صرخة الاحتجاج والحرية على الفقهاء الدوغمائيين الذين كانوا يؤسسون لتجميد الإسلام إلى الأبد.فخرجوا عن الإجماع الإسلامي الذي يقول بأن القضاء خيره وشره من الله، وقالوا أنّ الله لا يصدر عنه إلا الخير لأنه الخير المحض، أما الشر فينتج عن أعمال الإنسان وبالتالي فالإنسان هو وحده المسؤول عن أعماله خيرا كانت أو شرا. ياسين سليماني المعتزلة بهذا الرأي يكونون أوفى لروح القرآن من غيره لأن القرآن يقول :" لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" قد تكون هذه الفكرة الآن بديهية غير أنها كانت ثورية في وقتها الذي ظهرت فيه. إن الإنسان هو خالق أعماله والله لا يتدخل إطلاقه في خياره هذا، لأن الله يمثل العدل المطلق الذي يستدعي حرية الإنسان وتفعيل الصواب والخطأ والمسؤولية المنجزة عن ذلك فإذا كان الإنسان لا يملك هذه الحرية أمكن لنا أن نقول أن الله ظالم. وهل تظلم العدالة الإلهية؟ يبدو كلام مالك شبل واضحا، بهذه الطريقة إنه لا يضيف جديدا في فهم آراء المعتزلة أو فتحا معرفيا في النسق الثقافي الذي كانت"الجماعة" تبلور أفكارها من خلاله. ومع ذلك فإن خطاب شبل يتجاوز حقيقة أساسية. إن موقف المعتزلة كان تجريديا ، مثقفا أكثر من اللازم ولهذا انتصر عليهم خصومهم من الحنابلة الذين قدموا تصورا عن الله أقرب إلى فهم العامة ، إن العامة هنا لم تفهم الخطاب المعتزلي لإغراقه في التجريد العالي ، بتعبير هاشم صالح في كتابه "معضلة الأصولية الإسلامية" فإن التفسير المحسوس المباشر المجسد للقرآن كما فعل خصومهم هو الذي انتصر على التفسير الرمزي المجازي العقلاني. يقول هاشم صالح : لو انتصر لاهوت المعتزلة العقلاني المؤمن في آن لتغير مصير الإسلام ولما وصلنا إلى ما وصلنا إليه من تحجر عقائدي و ظلامية لاهوتية وتعصب أعمى. ماذا لو انتصرت مقولة خلق القرآن؟ بالنسبة لهاشم صالح، لو حدث ذلك أي لو كان المصحف الذي نمسكه بأيدينا ونقلب صفحاته كأي كتاب لم يكتسب صفة المقدس كان بالإمكان أن نطبق عليه القراءة التاريخية وعندئذ ما كان يصاب العقل الإسلامي بالجمود وما كان يصيبه هذا التحنط العقائدي. يقارن مالك شبل بين انتصار الحنابلة على المعتزلة في القرن التاسع الميلادي وبين انتصار الأصوليين المتشددين في وقتنا الحالي على الحداثيين والليبيراليين، هل التاريخ يعيد نفسه؟ قد يكون من المجدي هنا أن نقول أن الأشاعرة أيضا كانوا ضد المعتزلة في هذا الاتجاه وانتصروا للحنابلة، بتعبير آخر، كان موقف الحنابلة والأشاعرة انقلابا رجعيا على جوهر الدين الإسلامي عندما دعموا فكرة "تعطيل قانون السببية والقدرة البشرية" بينما كان المعتزلة أوفى لروح القرأن عندما رأوا أن الله لا يمكن أن يعاقب الخيّر ويكافئ الشرير، وإلا لكان قد ناقض نفسه بنفسه ما دام يقول : " من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مقال ذرة شرا يره....." وهذا يحسب للمعتزلة مرة أخرى. ينبني خطاب الجماعات الإسلامية المعاصرة في كل البلاد العربية وباختلاف مسمياتها على تحنيط العقل البشري وعلى تمركز الأحادية العقائدية بخطاب مغلق يدور في أغلبه بين قوسي التحليل والتحريم عبر صياغات مقولبة قديمة أثبتت عبر الزمن حاجتها للمراجعة. إنها جماعات تقلّم الحقيقة من كلّ نتوءاتها أو غناها –بتعبير صاحب عرش المقدّس- فتبقى الأجسام فقط بدون روح. جماعات امتلكت –في رأيها- المعرفة الكاملة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. هذا الامتلاك يتحول إلى سلطة، والسلطة لها مشروعية الحكم، ويصبح على الآخر التنفيذ سواء كان مقتنعا أم غير مقتنع. من هنا جاءت الصياغات التكفيرية المقولبة للآخر المختلف، حتى وإن كان خطابه مخاتلا مراوغا يحمل على التعاطي معه بالفهم المجازي لا الظاهري. يكفي أن تشم هذه الجماعات رائحة التفكير المختلف (التحليق في أرض غير أرضهم كما ذكرت في كتابة سابقة) حتى ترش الحوامض الكيماوية كما حدث للعديد من الفتيات من غير المحجبات في جامعة كابول بأفغانستان لتشويههن عقابا لهن على الجريمة النكراء. هنا يقطع السبيل عن إنتاج حوار حقيقي، ذلك أنّ الحوار يجب أن يسائل أكبر المسلمات وإلاّ فقد مصداقيته. وكيف لا يسائل الإنسان مكوّنات الثقافة التي يعيش في أجوائها وأولها الدين. أليس الدين منتج سوسيو ثقافي ظهر في زمان ومكان معينين؟. الدعوات إلى الانفتاح أنتجت مزيدا من الانغلاق، ومحاولة التوجه نحو مجتمع تشاركي تفاعلي لا يضطهد فيه المختلفُ رمزيا ولا ماديا أفرزت مزيدا من تكبيل الحريات وتكميم الأفواه. وما حدث للمعتزلة قبل قرون، لا يزال يحدث الآن بل بصيغ مختلفة وأشكال متنوعة. إنه سقوط مدوٍّ للإسلام الحضاري الذي لا أراه إلاّ سرابا. بل إنه سقوط مخزٍ لإنسان هذا العصر. ------------------- هوامش المقال: Malek Chabel : L'islam et la raison Le combat des idées -هاشم صالح، معضلة الأصولية الإسلامية -عبد الهادي عبد الرحمن، عرش المقدس.