"قواعد العشق الأربعون" إليف شافاق Elif Shafak واسمها الحقيقي إليف بيغلين، أمّا "شافاق" فهو اسم والدتها التي انفردت بتربيتها منذ عامها الأوّل بعد الطلاق. وهي تعتزّ بجوّ الحرية الذي نشأت فيه كونها لم تختبر السيطرة الذكورية للأب، وهو الغائب أو المغيّب في سيرتها الذاتيّة. تجاوزت الآن الأربعين من عمرها بسنتين أو ثلاث، وهي زوجة وأمّ (هل في ذلك تقاطع مع "إيلا"..؟). أديبة تركية عاشت بين تركيا، إسبانيا، أمريكا، وإنجلترا. تكتب الرواية باللغتين التركية والإنجليزيّة، وتعتبر من بين الأقلام النسائيّة الجديدة الأكثر مقروئية في تركيا خلال السنوات العشر الأخيرة. تتكوّن مكتبتها من ثلاثة عشر كتابا تسعة منها روايات، من بينها "الصوفي"، "لقيطة إسطنبول"، "الحليب الأسود"، "قواعد العشق الأربعون"، "شرَف". إليف شافاق Elif Shafak واسمها الحقيقي إليف بيغلين، أمّا "شافاق" فهو اسم والدتها التي انفردت بتربيتها منذ عامها الأوّل بعد الطلاق. وهي تعتزّ بجوّ الحرية الذي نشأت فيه كونها لم تختبر السيطرة الذكورية للأب، وهو الغائب أو المغيّب في سيرتها الذاتيّة. تجاوزت الآن الأربعين من عمرها بسنتين أو ثلاث، وهي زوجة وأمّ (هل في ذلك تقاطع مع "إيلا"..؟). أديبة تركية عاشت بين تركيا، إسبانيا، أمريكا، وإنجلترا. تكتب الرواية باللغتين التركية والإنجليزيّة، وتعتبر من بين الأقلام النسائيّة الجديدة الأكثر مقروئية في تركيا خلال السنوات العشر الأخيرة. تتكوّن مكتبتها من ثلاثة عشر كتابا تسعة منها روايات، من بينها "الصوفي"، "لقيطة إسطنبول"، "الحليب الأسود"، "قواعد العشق الأربعون"، "شرَف". وتعتبر تقنيات مثل: خلفيّة اللّوحة (التصوّف هنا)، أثر الدومينو، الفلاش باك، البناء الدائريّ، تداول الحديث، الكشف النفسيّ، الإسقاط، الدوائر القصصيّة، العوالم المتوازية، وغيرها ممّا يمثّل (قواعدَ للكتابة الروائيّة) في صميم ما سنحاول أن نحيطه بحديثنا في هذه الوقفة مع رواية "قواعد العشق الأربعون" ساعين قدر الإمكان إلى عدم الولوج في نقاش مع النصّ بسبب منظوريته للحياة والدّين والعلائق الإنسانيّة وغير ذلك من الثيمات التي تعرّض لها بشكل صريح أو ضمنيّ. وأقول "قدر الإمكان" لأنّه ليس من السهل دائمًا التقيّد بهذا الشرط، ذلك أنّ التطرّف والإقصاء الذي مارسه البعض بخلفية دينية أو فكرية أو سياسية قد أفضى في آخر المطاف إلى تطرّف من نوع آخر، باعتبار أنّ الكلمة تعني الوقوف في الطّرف الأقصى المقابل حتما للشيء النقيض. ولعلّها مسألة جديرة بالنقاش ولكن في غير هذا المقام .. تنفسح أحداث قصّة جلال الدين الرومي (604/672ه) وشمس الدين التبريزيّ الدّرويش المتجوّل الغامض، لتشكّل خلفيّة اللّوحة la toile de fond لأحداث الرواية، ويأخذ ذلك اللّقاء الحاسم بين ذينك العالمين (إن شئتم بفتح اللّام أو بكسرها، أو بحذف الألف وكفى) أبعادَه القصوى، ليس فقط في حياة ذلك الشاعر الفارسي خلال القرن السابع للهجرة الثالث عشر للميلاد، وهو صاحب كتاب (المثنوي) المثير للجدل، ومؤسّس فرقة (المولويّة) المشهورة بطقوسها ورقصاتها الخاصّة، بل في حياة امرأة أمريكية تعيش في أيّامنا هذه في مدينة نورثامبتون في الشمال الشرقيّ للولايات المتّحدة الأمريكية، ومن خلالها في حياتنا نحن باعتبارنا من المتلقّين المحتملين للنصّ الروائي. ارتأت الكاتبة أن تقسم روايتها إلى عالمَين متوازيَين، حيث يتابع المتلقّي بالتوازي ما يحدث في سنة 2008 ل"إيلا" المرأة الأمريكية اليهودية، زوجة وأمّ ماكثةٌ في البيت، تحبّ الطّهي وتسخّر كلّ حياتها لأسرتها، وبينما كانت تسير حياتها بشكل طبيعيّ أو كذلك كانت تظنّ، تبلغ الأربعين تلك اللحظة المفصليّة في حياة كلّ شخص (حتّى إليف شافاق)، لتكتشف فجأةً هالة الوهم الذي كانت تعيش فيه، فالسعادة التي طالما اعتقدت أنّها تعمر أرجاء البيت، كانت قد أعلنت الغياب منذ فترة طويلة في لحظة غفلةٍ منها. وحتّى يتجسّد ذلك أمامها تُعرب البنت الكبرى عن رغبتها في الزواج وهي لا زالت طالبة بالجامعة، ولم تخبر مفاجآت الحياة بعد بحسب اعتقادها كأمّ، والزوج مفرط الحنان والرقّة في الظّاهر يخدعها مع نساء كثيرات منهنّ مساعداته في عيادته الطبيّة، وطفلتها الصغرى تعاني من مرض السّمنة الذي أخذ يغيّر من شكلها الطبيعيّ، أمّا هي فتفتقد الشجاعة لمواجهة كلّ ذلك، أو لتغيير واقعها والحياة وفق مبادئ و"قواعد" أخرى مغايرة تماما. وتحدث الصدفة التي سوف تؤدّي بفعل ما يعرف ب(أثر الدومينو) l'effet domino إلى نتائج لعلّها لا تدهش المتلقّي كثيرًا في النهاية، إمّا لأنّه قد ألِف سيرورة التلقّي تلك لكثرة ما قرأها أو شاهدها تكرّر أمامه، حيث عادة ما يفرّ الإنسان الغربيّ من ضيق مادية حياته إلى فساحة العالم الصوفي المليء بالغرائبية وتوابل الحياة التي يفتقدها في دائرته المغلقة. أو لأنّ الكاتبة لم تحاول أن تداري النهاية المتوقّعة من خلال حبكتها للأحداث، لأنّها لم تكن في صلب اهتمامها بقدر ما كانت مشغولة بكيفية استعراض "قواعد العشق الأربعين" بشكل سلس وطبيعيّ، وهو ما يلاحظ المتلقّي عدم تحقّقه في العديد من المرّات بدليل ورود الحِكَم (القواعد) بطريقة إرغاميّة نوعًا ما في أحايين متفرّقة. ولعلّ سبب ذلك التبئير متعلّق بفكرة الكاتبة حول الأدب، والكتابة الروائية الخيالية خصوصًا، فأهمَّها بالدّرجة الأولى كيف تحقّق الرسالة الإنسانية للأدب وهي (نشر عقيدة الحبّ وقبول الآخر مهما كان الاختلاف أو التناقض). هكذا إذن تسنح الفرصة ل"إيلا" باعتبارها بدأت للتوّ تشتغل قارئة أولى (مستشارة) في دار نشر خاصّة، لكي تقرأ روايةً تسرد أحداث ذلك اللّقاء الحاسم في حياة جلال الدين الرومي، وقد وسَمها صاحبها وهو كاتب مغمور "الكفر الحلو"، وليس من قبيل المصادفة أن ي(تَ)قسِمها أجزاء خمسة بأسماء عناصر الوجود عند الصوفية (الأرض، الماء، الريح، النار، العدم). وبمجرّد انطلاق عملية التواصل الأدبي مع النص، ثم الروحيّ والعاطفيّ مع صاحبه، تأخذ الثوابت في التحرّك من حول "إيلا"، وشيئًا فشيئًا تنتحي حياتها مسارات لم تكن تتوقّعها يومًا، وتُقدِم على خطوات كانت تخشى مجرّد التفكير فيها بلهَ اتّخاذَ القرار الجريء لتخطوَها أخيرًا. وحين يتمّ اجتياز الخطوط المرسومة والمرسّمة في آن، لا تُجدي محاولات المحيط الاجتماعي ومتانة تلك الثوابت التي نُصبت للاعتقاد في الاستقرار والسعادة في الحدّ ممّا غدا حتميَّ الحدوث. تختار الكاتبة في الشقّ الأكبر من روايتها والمتعلّق بنصّ "الكفر الحلو"، طريقة في السّرد يمكن أن نسمها ب(تداول الحديث)، فكأنّنا ب(شمس التبريزي، الرومي، كيرا، كيميا، سلطان ولد، سليمان السكران) وغيرهم في جلسة حميمية حتى بوجود المتناقضات بينهم، وقد أخذ كلّ واحد منهم يروي ما كان شاهدًا عليه من أحداث، وهكذا يتحدّث بضمير المتكلّم الصّارخ الحضور في النصّ بشفافية وصدق من يتكلّم مع نفسه عمّا عايَشه من زاوية نظره الخاصّة، فيقوم بالكشف النفسيّ عن هواجسه العميقة ورغباته الدّفينة وأسراره التي كان قد أغلق عليها في صناديق الصمت الكاتمة. وبفضل هذه التقنية نشعر بحضورٍ لصاحبة النصّ في تلك الجلسة يتماهى مع الغياب، حيث لا يعدو دورها عمل ذاتٍ تدير الحوار وتسيّر تداول الكلام، فتنقل الأدوار لهذا مرّة وللأخرى أو الآخر مرّات بحسب الرغبة في الإفصاح والتنفيس. أمّا في الجانب الخاصّ بسنة 2008 فيستردّ السّارد لفترات متقطّعة مهمّة الحَكي، لنراه حينها مطّلعًا على كلّ ما يدور في عالمه السرديّ من خلال زاوية التبئير التي يراقب منها، فهو على علم بما حدثَ ويحدث وسوف يحدثُ والأهمّ من ذلك كيف. لكن سرعان ما تعود تقنية (التّداول) لتفرض نفسها من جديد، ممّا يشي بميل ذاتيّ من الكاتبة إليها، فتأخذ "إيلا" و"عزيز" على التوالي في الحديث عن تجاربهم القديمة والجديدة، فينقل "عزيز" (شمس التبريزي القرن الحادي والعشرين) تجربة انتقاله من عالم المادة (الحياة العادية) إلى عوالم الروح (التصوّف) بعد فقده لحبّ حياته وعيشه لفترة في تيهٍ عميق. وتحكي "إيلا" (الرومي في القرن الحادي والعشرين) عن حياتها وهي طفلة صغيرة، ثم شابّة في الجامعة، ثم زوجة وأمّ، وتصف مديّات تأثير رواية "الكفر الحلو" وأشعار الرومي فيها، والأبلغ من ذلك التغيير الذي أصبحت ترغب فيه بعد أن عاشت تجربة الحبّ الحقيقي أخيرًا ولو عبر الرسائل الإلكترونيّة. في مقابل هذه التقنيات وغيرها ممّا لا ندّعي الإلمام به في هذه الوقفة العجلى، يشدّ انتباه المتلقّي أشياء في الرواية تخيّب أفق توقّعه السرديّ، من بينها: اللّجوء إلى خطّة سردية بديلة، حيث يدهشه تغيير النصّ لمساره السرديّ بشكل مفاجئ، أو هكذا يُخيّل له، مرّةً حين يرجع "شمس" إلى دمشق وهو الذي قدِم قونية حتى يحترق فيها ليضيء الرومي، أو كما ذكر الشيخ "بابا زمان" ليكون دودة القزّ التي تضحّي بنفسها رخيصة لحصول الناس على مخمليّة ملمس الحرير. فلم تراه رحَل؟ أم كانت الغاية إيجاد مسوّغ لفكرة الزواج التي تعنّ للرومي حتى يبقيه بجانبه، أم دفع تهمة العشق بينهما؟.. ومرّةً حين نراه يتزوّج وهو الرجل الدرويش المتجوّل الذي كفر بكلّ النعم في سبيل البحث عن الله وخدمة عقيدة الحبّ، وإن كنّا نجده يقف دون اللّقاء الجسدي. ومرّةً أخرى في تفاصيل جريمة الاغتيال التي تعكس البناء الدّائريّ للرواية بوساطة توظيف طريقة فلاش باك flash back بشكل ما، إذ نجد "رأس الواوي" يستلّ خنجرا لينقذ ستّة رجال من قبضة الدّرويش فيطعنه في قلبه مباشرة ليرديه قتيلا، بعدما كان يتمنى منذ قليل فقط لو كان تحته "خنجرًا صغيرًا في غمده" لأن السّيف قد ثقل عليه تحت وطأة الحضور الروحي لشمس وللمطر الغزير. ينضاف إلى هذا كون الرجال المراقبين في البداية ثلاثة فقط ثم فجأة أصبحوا ستّة. ومن الغريب الذي يخضّ المتلقّي أن يدخل معهم شمس في عراك بطولي بل ويكاد يتغلّب عليهم مجتمعين، وكأنّه قد غدا أمام الموت متمسّكًا بالحياة التي لم يرغب فيها يومًا، هكذا يموت بعد معاناة وصراع غريبين عن شخصيته ومبادئه التي أسَرَت القارئ عبر مسارات الحَكي، حيث كان يظنّ أنّه سوف يختار أن تفارق روحه الجسد الطينيّ لترتقي إلى بارئها في سلام و"إذعان" صوفيّ لأنّ تلك مشيئة الله، فليس رأس الواوي من أجهز عليه في الحقيقة، وتلك إحدى قواعد العشق الأربعين، وإنّما الإرادة العليا لحكمة هو وحده العالم بها. ومرّةً أخرى حين نقرأ في حديث رأس الواوي كونه كان أثناء لقائه بالأشخاص الذين كلّفوه باغتيال شمس التبريزيّ، في مهمّة بحث عن البغيّ "وردة الصحراء" كلّفته بها صاحبة المبغى، لكنّنا في موضع متقدّم من الرواية وعبر حوار هذه الأخيرة مع "بيبرس"، ذاك الشابّ الشديد المتعصّب الذي يضرب المخمورين لمخالفتهم الشريعة ويذهب إلى المسجد في الظاهر، ولكنّه لا يجد حرجًا من الذهاب إلى بيوت الغواية متواريًا عن أعين الناس، نستنتج استسلامَ صاحبة المبغى لحقيقة هروب "وردة الصحراء" وكيف أنّها لم تُبد أيّ استياء من الأمر، أو إشارة إلى كونها تبحث عنها لتعيدها إلى العمل لديها من جديد. فإن كان يبحث عنها فعلًا ما سبب عدم اقترابه منها مع علم جميع أهل قونيّة بمكانها في بيت الرومي، واجتماع الناس لحضور رقصة "سما". فراغاتٌ قد لا يجد المتلقّي وسيلة لملئها كما يقول آيز W.Iser، وتناقضاتٌ من شأنها أن تُنقص من القيمة الأدبيّة للنصّ، فجدير بمن يحمل شعار "الفن للفن" ويحاول أن يحافظ على شمولية الأدب وإنسانيته بواسطة تبرئة ساحته (الأدب أو هو شخصيًّا) من خدمة أيّ فكرة أو توجّه، باعتبار الكتابة الروائية بالنسبة إليه لا تعدو كونها وسيلة تسعى لإحداث ثقبٍ في الجدران السميكة التي تحيط بنا، قد نتمكّن من خلالها أن نرى عوالم أخرى ظلّت لغاية تلك اللّحظة غائبة عنّا، لنعيش تجربة مغايرة من الثراء الروحي والحبّ الخالص (كما تعتقد إليف شافاق)، حريٌّ بهؤلاء وبنا معهم عدم الانشغال إلى هذه الدرجة ونحن نكتب بتحقيق فكرةٍ مهما كانت نبيلة وجديرة بأن يخدمها الأدب وكلّ فنّ إنسانيّ، انشغالًا قد يُفضي بنا في النهاية إلى إغفال ما نحن بصدده وهو كتابة نصّ روائيّ، وإلى عدم إحكام تقنيّةٍ قد تكون من أهمّ (قواعد الكتابة الروائية) وهي الحبكة السرديّة.