من المعالم التاريخية الحية بمنطقة الأوراس التي مازالت شاهدة على عبقرية الثورة التحريرية وتنظيمها المحكم يأتي مستشفى النبكة ببلدية بيطام بجنوب غرب ولاية باتنة الذي كان مركزا لجرحى الثورة. وحسب الحقائق التاريخية وشهادات العديد من المجاهدين الأحياء فإن كل محاولات المستعمر لكشفه أو الوصول إليه باءت بالفشل والسر في ذلك وفي شهرته لاحقا يعود إلى مكانه الآمن تحت الكثبان الرملية المتحركة بمنطقة النبكة بمشتة أولاد جحيش. فمعرفة المكان وسط بساط شاسع من الرمال المكسوة بالحلفاء ونباتات صحراوية أخرى مختلفة وكذا العقارب والأفاعي يعد حسب بعض الشهود الذين مروا بالنبكة ضرب من المستحيل دون الاستعانة بدليل أيام الثورة أما اليوم فتستوجب الرحلة أيضا سيارة رباعية الدفع وحفنة من الشجاعة . وهي الحقيقة التي وقفت عليها وأج التي كانت مصحوبة في المغامرة التي قادتها إلى النبكة بآخر من تبقى من أبناء الجهة الذين كانت لهم علاقة بما شهدته النبكة أثناء الثورة التحريرية وهما الشيخان عقوني محمد (88 سنة) الذي كان وقتها حفارا للآبار وحفر العديد من الكازمات والأنفاق بالنبكة ورزيق رزيق (74 سنة) الذي كان مسؤول مشتة أولاد جحيش . دهاليز وأنفاق تحت الأرض ونظام خاص للتهوية كانت مفاجئة "وأج" كبيرة حين وجدت المستشفى النموذج بعد قطعها لمسافة 13 كلم باتجاه بلدية أمدوكال منها 7 كلم عبر مسلك ترابي وعر عبارة عن دهليز تحت الأرض يتم التسلل إليه عبر فتحة صغيرة تسمح بمرور شخص واحد إلى الداخل من خلال سلم ترابي ينتهي برواق ضيق يتفرع إلى غرف صغيرة نحت على جانبيها أسرة وأماكن للجلوس كالكراسي لكنها من صخر كلسي مقاوم . ولم يتمالك الشيخ عقوني نفسه وهو ينحدر بخفة إلى داخل (المستشفى) الحفرة التي قام بحفرها منذ أكثر من 55 سنة وعادت به الذاكرة إلى الوراء دون أن يعير اهتماما إلى الجعران الذي غزى المكان على ما كان يبدو في غياب الحياة بالمنطقة . اتصل بي المجاهد عبد القادر بوسماحة المدعو الوهراني وكان وقتها مسؤولا عن التنظيم والاتصال بالمنطقة الرابعة من الولاية الأولى وأخبرني بحاجة الثورة إلى هذا المركز الأرضي ووضع لي مخططا له ليساعدني في بداية الأشغال المجاهد يعقوب الدراجي لكنه تولى بعد ذلك مهمة حراسة المنطقة يضيف المتحدث . كانت المهمة شاقة وتتطلب حذرا وكتمانا كبيرين وكذا شجاعة في مواجهة أي طارئ لأن المكان الذي اختير لاحتضان مركز الجرحى كان محفوفا بالمخاطر يؤكد الشيخ الذي قال والدموع تنهمر من عينيه أنه قضى ليالي بأكملها في النفق يحفر وعندما يتعب ينام. لكن السعادة غمرتني يردف المتحدث بعد أن استكملت المهمة وكانت مطابقة لما طلب مني ثلاث غرف مقوسة الأبواب على شكل قباب تعلوها فتحة صغيرة في كل سقف لتهوية المكان أما في الخارج فتغطى بإحكام بنبتات شوكية حتى لا تظهر للعيان . كان ذلك بين سنتي 1955 و 1956 حسب شهادة عقوني الذي جزم ل"وأج" بأنه ساهم في هذه الفترة في حفر الكثير من الأنفاق والدهاليز بالنبكة لكن أغلبها ردم اليوم تحت أكوام الرمال في حين اندثرت المسالك المؤدية إلى أخرى ولم يبق إلا هذا المستشفى الذي نحن الأن أمامه . أما الشيخ رزيق فكشف ل"وأج" أن مسؤولي الثورة بالناحية وجهوا تعليمات صارمة لسكان المشتة وكان أغلبهم من البدو الرحل بأن يحفروا أنفاقا أرضية على شكل كازمات تحت كل بيت من الشعر أو خيمة وكان الهدف استغلال المكان المؤمن بالرمال كخلفية لجيش التحرير عند الحاجة واستقبال الجرحى للمعالجة . كنت وقتها يواصل المتحدث مسؤولا على مشتة أولاد جحيش وعملنا على حفر 3 مستشفيات (كان هذا أكبرهم) و6 كازمات في النبكة بقت كلها سرا مدفونا تحت الأرض لم يعلم بها أحد من سكان المشتة أو جنود الاستعمار لأننا كنا نحرس المكان ولا نسمح بالاقتراب منه أبدا بما فيها الذي قام بالحفر أو الذي يحرس. بيت من الشعر للتمويه وظلمة الليل للإبقاء على السر روى المجاهد يوب مبروك (72 سنة ) الذي التحق بمستشفى النبكة في سنة 1958 وعمل لعدة أشهر في التمريض تحت إشراف المجاهد محمد حسب الشهادة التي أدلى بها ل"وأج" عن التدابير المشددة التي اتخذت آنذاك ليظل المكان بعيدا عن أية شبهة . فمنافذ التهوية يحكي المتحدث توضع فيها نباتات شوكية ومدخل المركز يسد بقطع من الخشب ثم تفرغ عليه كميات من الرمل التي تغرس فيها النباتات المعروفة بالمنطقة (الدرين والباقل ) ليلقى عليها بعد ذلك قليل من مخلفات الإبل والماعز. ويتولى هذه المهمة كلما تطلب الأمر أحد سكان المشتة المعروفين وقتها بالولاء التام للثورة المجاهد بالخير إدريس الذي كثيرا ما كان يعمد إلى نصب خيمته ( بيت من الشعر) فوق مدخل المستشفى ليتمكن بعض الجرحى من الخروج والبقاء تحتها لبعض الوقت دون تخطي عتبة الخيمة والتعرف على المكان الخارجي . وأكد يوب الذي تولى فيما بعد منصب ممرض الناحية ومهمة الإشراف على جرحى مستشفى النبكة حسبما أكده ل"وأج" أن إدريس بالخير كان يتواجد على مقربة من المركز دوما ويقوم بطرد كل غريب عن المكان في حين تتولى عائلته إعداد الطعام لمن كانوا داخل المركز . أما الجرحى الذين يحولون إلى المستشفى فكانوا يوجهون ليلا محمولين على البغال أو الجمال عن طريق فدائيين إلى خيمة أحد المناضلين بالمشتة ويسمى محمد بن ساعد أولا وكان لا يعرف مكان المركز ليتم استلامهم من طرف شخص ثالث يتولى إيصالهم إلى إدريس بالخير الذي يوصلهم إلى المستشفى في سرية تامة وفي جنح الظلام . ويحكي المجاهد يوب أن الحياة تحت الأرض في الدهليز الذي كان محاطا بالرمال ولا يقربه أحد كانت آمنة وكنا نحرص يضيف المتحدث "على جعل الجريح الذي قد تتراوح مدة إقامته من أسبوع إلى شهر لا يعرف شيئا عن المكان الموجود فيه حتى وإن تم القبض عليه يوما ما أو رجع إلى المكان لا يتمكن من كشفه" . وكان مستشفى النبكة ببيطام المخصص فقط للجرحى يمول بالأدوية من طرف جبهة التحرير وأحيانا نتحصل على إعانات عينية من عند بعض الجزائريين العاملين في الصيدليات وكنا نأتي بالأدوية ليلا حتى أنني يضيف المتحدث "اعتدت على الطريق إلى المركز ليلا لأنني لا أخرج في النهار إلا نادرا وللضرورة القصوى" . ويتذكر المجاهد أن المستشفى الذي كان يغلق ويتم هجره في الأوقات التي لا يكون فيها جرحى ظل إلا غاية توقيف القتال مكانا آمنا وحصنا منيعا لم تستطع قوات المستعمر تحديد مكانه على الرغم من أن الشكوك خامرتها في آخر المطاف بأن النبكة تحوي على مكان للتمريض بعد أن أكتشف أمر مدني عالجناه بالنبكة واعترف بأنه لم يخرج من بيطام. المعلم الذي سيذكر الزوار بالمكان لكن وإن اختلفت الشهادات حول الأنفاق والدهاليز التي كانت تحتضنها أرض النبكة ببيطام ولم يبق من أبناء مشتة أولاد جحيش الذين كانت لهم علاقة بطريقة أو بأخرى بالمركز الصحي لجرحى الثورة أو مستشفى بيطام إلا القليل ومنهم دليلا "وأج" فإن من بقوا على قيد الحياة أجمعوا على ضرورة إنجاز معلم تذكاري أمام مدخل المستشفى الوحيد الذي مازال يحتفظ بمعالمه . فمن حق جيل الاستقلال أن يصل إلى هذا المكان المهجور ويتعرف عليه ويتخيل الصعاب التي واجهناها من أجل الاستقلال الذي يتنعم به اليوم يقول عقوني محمد وهو يمسح الدموع المنهمرة من عينيه في حين وقف الشيخ رزيق رزيق يتأمل المكان وكأنه يتحسر على السر الذي يحتويه وقد يدفن إلى الأبد برحيله ومرافقه.