شاد قانون الصمت وعشش الخوف في نفوس الأهالي، كل الأهالي، النابوليتانيين، الكالابرنيين، الصقليين بل هو الرعب يضرب في المفاصل والأرجاء، في الجوارح وفي الأجساد إذا تحرك أحدهم من الصحافة أو الأدب كي يكتب عن /المافيا/ وجرائمها المحكمة التنفيذ، البالغة التصويب، إن لها لحمة وتمكنا في الكيان الثقافي الإيطالي ويعسر اختزالها في الماهية أو في أنشطتها ذات المنحى الإستئصالي، هي ظاهرة إنسانية بتعريف جيوفاني فالكوني، نتعرف إليها كظاهرة، لها سمات الظاهرة ولها نهايات الظاهرة، انتهى هكذا فالكوني القاضي الإيطالي المعروف، وانتهى بيتينوكرايسكي وجوليو أندريوتي في السياق المافياوي المختلف· إن أي ايطالي في أي مكان ما من أمكنة ايطاليا يشعر بأن يساء له تماما وتكرارا كلما نزل على المخيال /الاسم الإيطالي/ كالصفة وهي تتبع الموصوف، حيث الكا حرف /كا/ يعني الزعيم و/مورا/ هي الشوارع، وكذلك لطافة ونبل ذلك الاصطلاح /كوزانوسترا/ فمعناه ذلك الشيء الذي يخص بنا أو يخصنا عائدا على مفهوم الأسرة كونها القاعدة التأسيسية للقيم، غير أن هذه القيمية سرعان ما تنزاح عن فجيعة الفعل المخل بالإنساني ذلك الذي تقوم به مافيا /الإندرانغيتا/ الكالابريا فالإندرانغيتا //فُّموهَفْلَة تعني مفاجأة أو جذب شخص ما من ظهره، فن عالي الإبهار تمارسه المافيات في صقلية باليرمو وفي كالابريا وفي نابولي، لكن الشهادة عظمى ستكون لو يقدر روبرتوسافيانو على التوغل أعمق، أبعد في الدهليز النابوليتاني، روبرتوسافيانو سيضيف على الميثيولوجيا ميثيولوجيات /غومارا/ ملحمة بلاغة وتصوير، سينما لها سبق الكتابة وحيازة النثر بخلفية غرامشوية تغذي العمل الإعلامي بجرأة بطولية نادرة الإنوجاد في إعلام هذا العصر، فيما يكتب سافيانو يسبقه تصميمه على التعرية والفضح تسبقه التطلعات الخرافية التي تعلي شأن الصحافة الممهورة بدم القلب، دم الأدب، دم الشهادة مع سلمان رشدي لا يكون سافيانو إلا الشريك الأساسي للآلام، حياة التخفي الصعبة، الخبز الذي يقتسم مع الجار، الجار الذي يغادر سكناه خوفا على نفسه من جاره الكاتب الذي تحرش بالكامورا فأقسمت يمينا أن تفصل رأسه عن الحياة وتفصل في حياته فلا يكون إلا كسلمان رشدي له الحرس والعسس، له الجبنة ووجبة السباغيتي البائتة ثلاثة أيام متوالية، له طلة واحدة على البالكون واحدة فقط، له نفس سيجارة وشقة محرم عليه المكوث فيها زمنا غير محسوب، المناوئ للبرلسكونية ولايطاليا برلسكوني، غامر بالروح وبالجسد وبالمصير حتى يكشف أسرارا كثيرة عن عوالمها الباهتة، المأفونة، المدججة بالسلاح وبالفكر التصفوي، حاول أن يمزق لثام اللامبالاة وأن يظهر كم هي جبانة الكامورا في الحقيقة، وكم هي مقتصرة على وجه واحد ألا وهو التعطش إلى المال، معرفا بعمله، جهده، مخاطرته بحياته، يصعب تشفير الشهيد الحي سافيانو بنحافته السينمائية، بلحيته المشذبة، بنظرته الموزونة وبمشيته المرتبكة، ابن الثلاثين أو تزيد بقليل، يصعب تشفيره أقول لأنه يكتب هذه الكتابة المتطبعة بالأحلام المجهضة لنابولي ولسكانها المطمورين تحت أحذية القتلة ومشاريعهم، لقد كتب غومورا بطقسية خاصية، بخوف غامض، وعاشق مسجون يحبس أنفاس سجانه، كانت سردية غومورا محنة لا تصدق، محنة الجدوى، محنة التموقع كتابيا، محنة الموضوعات التي جرى افراغ محتوياتها الكاذبة، محنة الاعتراف الواجب نزعه من النقاد والمتنقدين، إنه يذكر ما يذكره في كتابه الجمال والجحيم عن معاناة الاسم والإلتزامية التي نحاها ووقفاته الهامة وهو يفكك بالحكي الرقيق الحاد جملة التسممات والتلوثات التي راح مهووسو المال والجريمة يبثونها في المحيط الأوسع من نابولي، فالهاجس ليس واطئ السقف، عديم التمدد في جسم غير جسم ايطاليا وفي بحر غير بحر الأدرياتيك، بل واجب عولمته والتنكب لإضاءات ضرورية في موضوع يحرك همم مؤسسات ومحافل دولية كثيرة· لاقى كتاب /غومورا/ دهشة الناس، أحرز الميدالية والتصفيقات، حصد لقب الرواج الأفضل وكان حريا أن يهاجمه الكثيرون ويثأر لقلمه لكتبه والمتمرسين سيان، إنه يكتب ويعيد كتابة مقالاته، في السادس والعشرين من عمره لا يمكنه، لا يمكنه كتابة كل ذلك، كل هذا، في السادس والعشرين من العمر نكون بعد نلعب كرة القدم، شخص مستخدم من طرف السياسيين هو روبيرطو، سافيانو لا يبحث إلا عن المال والمجد، لقد هاموا به وهموا به، مافيات صغيرة تعمل للكامورا الأم، أشخاص مشبوهون قد يكونون تطوعوا لتهديمه من الداخل بتهديم عناصر الجمال الذي أبدع فيه وأينع الإبداع فيه، في نصه الملحمي /غومورا/، النساء الصديقات تركنه عندما اكتشفن فيه مطلوبيته من جهاز عدالة نابولي، الفنادق لا تحجز له إذا عرفه أحدهم، لقد أخل هذا الكاتب المدهش كفليني وكمستروباتي بأمن الدنيا وأمن حراسه وأمن نسائه، تحدث في حواراته عن هدوء نفسي لم يره، عن سلم لم تزرعه أيادي شياطين نابولي وكلابريا وباليرمو وهم كذلك شياطين محفورة بصماتهم في البحر المتوسطي لهم جذر ولهم أعماق ولهم سقوف / إنهم في الواقع ليسوا مجرد رعاة قطعان ضارين كما قد يفترض المرء للوهلة إنهم في الواقع مستثمرون مغامرون على نطاق واسع، وخريجو جامعات غالبا، وذوو مظهر حسن ومرفه/· هؤلاء هكذا بدا العمل عليهم والغش تحت طاولتهم وخداعهم بالكلمة وبحسن التعبير ورباطة الجأش والإصرارية، غش معهم وأدمى أقدامهم وهو تحت أعطافهم مرة بين أصدقائهم وأعوانهم مرات وتحت حماية البوليس فلا يترك له أثرا عند بقالة ولا مسكنا من الميغرينا من صيدلية الشارع المجاور، هذا الذي قلته عن المشابهة في السياق مع سلمان رشدي مع اختلاف في نشوة القاتلين المحتملين بالقتل فالخمينيين راجعوا فتواهم لأنها لعبة مع قط السياسة وفأر الدين وتجاذبات دولية بعيدة كل البعد عن لعبة رشدي وفنتازياته ولكن روبيرتو سافيانو، ماهر، مهدد للمصالح، يلعب ما يشاء بمن يشاء في الواقع ونهره المتخيل، ولذلك حاذى بعمله الرواية ولم يستثني الصحافة من عناصرها الحية في الوقائع والصياغات وفي المنهجية وفي اللغة· بين الجحيم الذي اختاره والذي لم يسمح له إلا مرة واحدة في ارتداء ربطة عنق جميلة في لقاء استوكولهوم وبين جمال الكتابة نفسها عن هؤلاء الناس البشعين جدا وهم يزعمون صدارة الشارع ويتزعمونه لاهين بكرامة الأطفال وشرف الناس، جثث أموات مجمدة في الحاويات، أسماؤهم مخربشة على وقع صغيرة ومربوطة بخيط على رقابهم، هي أفاعيلهم المنكرة وكبائرهم في الميناء ومصلحة التفريغ والتخزين كأن البشر عندهم كالبضائع، كبضائع الشرق الأقصى، يدفعون الضعفاء الأتاوات والضرائب عن ما يخطر على بال وما لا يخطر، عن سروال وإبرة، عن قفل، عن مفك، عن سماعة يد، عن لعبة أطفال، عن بطارية وعن مصاصة حليب، كل هذه الأشياء يأتي زبونها صاغرا ما عليه إلا بالدفع الفوري، اللاشعوري، حتى لا يكون ذات يوم نسيا منسيا، زائدة دودية هذا المرفأ كما يوصفه سافيانو، قذارة ومرحاض وجثث· صورتهم التي يحبون أنفسهم عليها هي صورة هوليودية مبتذلة وفجة ولكن /الكومورا/ في ابتذالهم وفجاجتهم وبربريتهم ليس لهم شبيه حتى في السينما النيويوركية /لقد حاولوا مرة قتلنا/ /لهم مسدسات أوتوماتيكية/ /كانوا يترصدون عشاق السبت، يستغلون أجواءهم الحميمة فيسرقون أغراضهم/ هكذا كانوا على الأقل، في حدود الأقل عندما يتعلق الأمر بعالم الشغيلة والشغالين في ورشات القماش والتصفيات ليس لها رائحة فهي كالمال فمن هم في المرفأ أو في المزادات مصيرهم واحد إن أخطأوا في السر أو في الحرفة وبسخرية روبيرتو سافيانو فإن البزة التي صنعها العامل باسكال في مصنع سري تحت الأرض في /أرزانو/ وهي من ثلاثة نسخ من ذا الذي سيجرؤ على الجهر بأنها ستكون فيما بعد العروس من وريثات العرش الياباني أو للمستشارة الأولى في ألمانيا أو حتى لانجيلينا جولي وستسرف الصحافة العامة في ذكر مزايا وحرفية وأناقة وخيال هذه البزة لإنجيلينا وتنسى المقهورين من أمثال باسكال الذي هو آخر من يعلم لأنه تحت خنادق أكابر نابولي يتنفس عند الطلب ويتعرق عند الطلب ويمسح دموعه عند الطلب وعند قوله /أنا من صنع بزة انجيلينا/ فقد يموت من ذكر الحقيقة المرة، حقيقة أمراء الشوارع، أمراء السيكونديغليانو في تنظيمها المتمكن المبني على التجربة والشر وعلوم الاقتصاد والسياسة والفلسفة والماكيافيلية· إعلاميا يمتلئ غومورا بالتفاصيل ويتبوب على فصول وكل فصل يستحق فيلمه، يستحق جمالية سينماه، ويستحق ملحمته لا بوصف جورج لوكاش /الرواية ملحمة برجوازية/ بل الرواية هي ملحمة مافياوية تماما كما هي عند روبرتو سافيانو·