لم تكن الأحداث الدامية في العراق هي الهم العربي الوحيد، وإن كان هو الأكبر خلال عام 2005 الذي تسقط آخر أوراقه اليوم، ولكن الأحزان والهموم العربية تجمعت مع وفاة خادم الحرمين الشريفين فهد بن عبد العزيز، عاهل المملكة العربية السعودية وجون قرنق نائب الرئيس السوداني في يوم واحد في بداية شهر أوت··· قبلهما كان اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في شهر فيفري في أكبر عملية إرهابية تشهدها لبنان منذ اشتعال الحرب الأهلية التي لا تزال أثارها ممتدة مع إطلالة عام جديد تظل أحداثه في رحم الغيب· في سوريا أعلن الرئيس بشار الأسد سحب قواته بالكامل من لبنان، وقام بتنفيذ ما وعد به، إلا أن العلاقات بين البلدين ازدادت توترا واحتقانا مع اغتيال الصحفي والنائب اللبناني جبران تويني قبل نهاية العام بشهر واحد، بعد أن أشارت أصابع الإتهام إلى سوريا، وبرغم انتخاب الزعيم الفلسطيني المعتدل محمود عباس (أبو مازن) رئيسا للسلطة الفلسطينية خلفا للرئيس الراحل ياسر عرفات، فإن قضية العرب الأولى لم تبرح مكانها كثيرا ولم يفلح الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة بعد 38 عاما من الاحتلال في تخفيف حدة التوتر في الأرض المحتلة التي ظلت الأوضاع فيها مشتعلة ومليئة بالمواجهات والاعتقالات والاغتيالات، ولا تزال الآمال معلقة على العام الجديد لإتمام الانتخابات التشريعية الفلسطينية وتحقيق انسحاب إسرائيلي من الضفة الغربية وبقية المدن الفلسطينية· وفي موريتانيا كان الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطايع أبرز الأحداث في المغرب العربي، وفي السودان بدأ العام المنصرم بتوقيع الاتفاق النهائي للسلام بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية بالجنوب، وفي الأردن لم يرحل عام 2005 دون أن يترك بصمات حزينة على أهله بعد أن شهدت العاصمة عمان واحدة من أكبر العمليات الإرهابية في تاريخه تبنتها جماعة الزرقاوي، وأودت بحياة 57 شخصا وإصابة 115 أبرزهم المخرج السوري العالمي مصطفى العقاد· ورغم الهموم والأحزان العربية الممتدة من المحيط إلى الخليج، فإن عام 2005 لم يشأ أن يودعنا دون أن يترك لنا بارقة أمل، لكن هل حقا الحكام كغيرهم من البشر يندمون على ما فعلوا من أخطاء ارتكبوها في حق الآخرين أم أن السلطة والمال يعميان بصيرتهم، إضافة إلى الناس الذين يؤيدونهم على طول الخط وإلى ما لا نهاية ويصفقون لهم ليلا ونهارا، هذا الذي يجعلهم لا يرون دموع المظلومين أو المقهورين أو المفقودين بسبب حكم أو قرار ظالم من حاكمهم أو أحد أعوانه· وتكشف صفحات التاريخ أن هؤلاء الحكام لم يكن في وسعهم قهر الشعوب دون وجود هؤلاء السدنة من المنافقين والمرتزقة الذين يبررون لهؤلاء مظالمهم وجرائمهم البشعة في حق الشعوب، والتي يطلب منها فقط الطاعة والولاء لكل مظاهر هذا الجبروت والفساد، وفي النهاية يفقد الشعب كل مقوماته لديمومة الحياة ويصير معرضا لكل تدخل خارجي ما لم يخرج الشعب عن صمته ويواجه، ولنا في روما أكبر مثال على ذلك، فالإمبراطور فنيرون كان متربعا كإمبراطور على روما في أوساط القرن الميلادي نموذج لسادية الحكام، حيث جعلته يرى في نفسه إلها وفنانا يحلم بإعادة بناء روما وفقا لخياله المريض وليجعلها مدينة نيرون ولم تهمه الوسيلة التي يحقق بها هدفه، ولن يعنيه بمن يضحي، فقام بحرق روما وألصق تهمة حرقها لطائفة من المسيحيين واستمر في مكيدته حتى عثر على مجموعة مرتزقة ضعاف النفوس أقنعهم بأن يشهدوا زورا ضد هذه الطائفة المسيحية بأنها هي التي أحرقت روما بزعم أنهم يكرهون الجنس البشري، وكان ذلك مسوغا لنيرون ليشبع نهمه من القسوة والوحشية بالتفنن في تعذيب هذه الطائفة، فدفن بعضهم أحياء وصلب البعض الثاني وترك البعض الثالث غنيمة للكلاب تنهش أجسادهم، حقق نيرون حلمه بإقامة روماالجديدة بقمع باهظ من الإسراف وظلم العباد· ولكن هل يشعر الحكام بالندم والحسرة؟ هل يتألمون مثل البشر بسبب المآسي الناتجة عن قراراتهم الظالمة؟ وهل يمكن أن يتخلوا لحظة عن أنانيتهم وكبريائهم ليرجعوا عن قرار خاطئ أو يرفعوا مظلمة عن العباد؟ وهل يمكن لحاكم أن يعيش لحظة يقظة ضمير تدفعه لتصحيح الأخطاء ولو بدأ من المظالم والخطايا التي يرتكبها وزراؤه أو موظفوه الذين يمثلون في حكوماته· ولا أخفي قرائي الكرام أنني أقصد دولا كثيرة، ولن أبدأ من الجزائر لأن الأمر لأخف وطأة كثيرا من غيرنا ببلاد أخرى، لأنه كما يقول المثل ''على قدر أهل العزم تأتي العزائم، وعلى قدر أهل الكرم تأتي المكارم''، ودولتنا الجزائر صغيرة فقيرة من دول العالم الثالث، فماضينا ومظالمنا تكون بقدر حجمنا، ولكن الدور الباقي على الدول العظمى التي تظلم الشعوب وربما شعبها، فهل يا ترى حكامها يشعرون بالندم؟ ربما نعثر على بعض الإجابات عن هذه الأسئلة التي تدور في خلد الناس جميعا مما سطرته أيضا صفحات التاريخ، فها هو نيرون لم يعرف معنى الندم على جرائمه في حق شعب روما ومنعته ساديته من الاعتراف بخطئه ومحاولة الإصلاح، وكل ما استطاع فعله عندما ثار الشعب ضده هو الفرار كالفأر المذعور من انتقام الشعب، فسارع إلى قتل نفسه· وقد عانت دول كثيرة من ظلم حكامها حتى في أكثر الدول تقدما، وربما يمتد ظلمها لشعوب أخرى بعيدة عنها· أما المظالم في عالمنا العربي، فتكون صغيرة بحجم انتمائنا لدول العالم الثالث، فماضينا ومظالمنا تكون وفق حجمنا· أليس الله أنعم علينا نحن العرب بنعم كثيرة ومنها الدين الإسلامي والارتباط بمنطق الحساب، حيث الثواب والعقاب· والحقيقة، أن تاريخنا العربي لم يكن بمنأى عن المظالم وتكفي الإشارة إلى دموية الحجاج بن يوسف الثقفي الذي يبدو أنه قد رضع الدماء بدلا من الحليب، وكتاب الأغاني للصفهاني يشير إلى إمكانية ندم الحكام، فهناك قصة ملك الحيرة المنذر الذي حكم على رجلين بأن يدفنا في تابوتين في حفرة بيت في الحيرة فقط لأنهما ناقشاه في بعض القضايا وأغضباه بطريقة كلامهما، ولكنه في الصباح التالي استيقظ ليسأل عنهما ويجاب بأن أمره كان مقضيا، فشعر بالندم، بندم شديد وأمر ببناء الغريين عليهما وكان يذهب يومين في العام يجلس عند الغريين وسمى أحد اليومين يوم نعيمه والآخر يوم بؤسه، فأول من يرى في يوم نعيمه يعطيه مائة من الإبل وأول من يظهر له يوم بؤسه يأمر به فيذبح ويرش بدمه الغريين، هكذا يندم الحكام حتى بندمهم ظلم··