أصف سيرة عبده وازن بسيرة البيت الأول، سيرة الطفل الأول، سيرة الحب الأول، في قلب مفتوح وجدت البيوقوتية حاضرة وتلقي بأطيافها على كل العوالم والموضوعات الأخرى، وكونها سيرة لا يعني إطلاقا افتقادها إلى عناصر القص والسرد والراوي، يروي عبده وازن حياته بأقل التفاصيل الممكنة غير أنه يستعمل هذه التفاصيل عند الحاجة السردية أو عند الحاجة فقط··· قلب مفتوح يتداخل مع مبضع الجراح وثوب الممرضة ومريولها الأبيض، مع الطبيب العبقري الذي آخى بين الرصاص واللحم، مع الأم وهي تذرع الشوارع والأرصفة وحتى الحجر والزفت حيث الحصى الصغير يوخز الأقدام في لا مبالاة منذورة فقط كأنها صلاة، كأنها نذر للنبي إيليا بعد نجاة الطفل من موت محقق برصاص آثم غير مقصود· الطفل المنذور واجه هكذا كل الأسئلة منذ الصغر والصبوات والخطيئة، قبل اليفاع، قبل أن يراهق، قبل أن يشتد العود والساعد، بدأ وعيه مع الألم وليلة عيد النبي إيليا، إنها ذكرى تبوأ أحد الزعماء كرسي الرئاسة، أطلق مواطنون رصاص الفرح الذي أصاب العائلة في ابنها، رصاص يبقيه اللبنانيون دائما في حوزتهم حتى في التعبير عن المحبة أو الأعراس أو المواليد الجدد، قلب مفتوح مسترسل في حكاية الحكاية، إنه حكاية الحكاية التي تبدأ بالسقوط في وهدة المرض، اليتم الباكر، ضربة القمر وحبه الأول، غواية الجنس في كنساشا، الإنكباب على الصوفيات والموضوع الروحي في صرامته المسيحية، التجارب الأخرى ضمن البعدين الجسدي والروحي، اكتشاف الثقافي، الانهيار العصبي اكتئاب الثلاثين، الأحلام وفنونها، الرؤيا والنوم، الإنتماء واليسار، الفتى فيروز ومثليته الجنسية، ذكريات عن الصورة وعالم الكاميرا، الملائكة وهيئاتهم··· هكذا هي الكتابة في نباهة الحياة، فطنتها، فطنة الطفل الذي ظل يكبر ولا يكبر فيها، تحفه الرؤى والإشراقات، يحفه الضوء، يحفه برق النهارات الصغيرة، نهارات قرية الدكوانة حيث البصارات اللوائي يقرأن الطالع، حيث التعميد المائي المقدس فريضة من فرائض المسيحية السمحة، حيث العرق الزحلاوي الذي كانت تشربه الجدة عن ظهر قلب وتعيد الكرة مرات ومرات مباهية الرجال الجوف· المنذور عبده وازن ولد من بطن الحوت و منه خرج، له سمة الإصطباره والإحتساب أرقى مما في المراقي، إذ ينشأ المنذور المغشى بالبياضات تحت ضوء الشموع، الخيمة، العريشة، الصراخ الذي ما برح يتراجع في أذني ولو واهيا كما كان يقول وازن المصاب في بدنه ليلة عيد النبي ايليا··· أصفها وأخالها هذه السيرة بالبيتوتية، نصوص منزلية، مروياتها كثيفة ومتكاتفة، ليس فيها بطولات وعنترة، فلقد اعتادت الذائقة العربية على الإنسحار بالسير ذات النفس البطولي الملحمي والأنوية المتضخمة التي تتكابر عن ضعف يعتورها أو نقيصة تمسها، بل تجري السيرة العربية للشخصية العربية كشاعر أو كروائي أو كمسرحي أو كسينيمائي بروحية في الدرجة الصفر ويأتي السقف عاليا في تضخيم الحضور الجسدي وأفعاله، قيمته ورمزياته، الحوادث وطوارئ الحوادث، هكذا تجري وتعمل وتصهر في أتونها البطل بساعديه المفتولين يحرك الشخوص والمجتمع والدولة ومشتقاتها في أرض نزال عنيفة، مصطخبة، فوارة، لا خطوط واحدة متطابقة، ولا اعترافات مكشوفة غير معصومة، ولا حماقات مفترضة ولا بلاهة ولا أبله· من هذه الناحية يبدو وازن المصلوب، المنذور، المسكون بالرامبوية أبعد عن المديحية وعقدة النرجس بمقادير، إذ يؤالف الروح والجسد في وئامية والتصاق وتحاب نادر الوجود في الكتابة العربية التي تفارق الروح عن جسدها بنصل سيف حاد يفصل ولا يوصل، تقرأ لعبده الجسد المجروح منذ البدء مترجما بلغته هو لا إلى لغات أخرى، الجسد في ندباته، في دمه الأول وفي سلالته وانتمائه، انتماء إلى الحروب وأوزارها، انتماء إلى عقيدة المصلوبين وأناشيد المريميات، انتماء إلى الحلاج والسهرودي وطه حسين···· هي سيرة في القلب إذ يجيش بدخيلائه فيقول اعتمالات، يقول مكبوتات، يقول التعاليم وبعض من مرويات الفقه الروحي، الشفوي، المسيحي ذلك الذي تهذي به الأمهات في همهمات وتمائم لا يفهمها إلا الطفل الموجوع كما الوطن الموجوع منذ الأزل، منذ ميلاد النبي إيليا، ميلاده وعيد ميلاده · إن ميزة عبده وازن في شاعريته الخاصة، ذلك أنها الإيروس الروحي القليل الوجود في صيدليات النص العربي المكرسة للإنفصام والشروخات، لشاعر كتب سراج الفتنة وكتب أبواب النوم وكتب حياة معطلة لا غرابة جاءت معه في نصه الحميمي قلب مفتوح بالنكرة، إنه عنوان من الحياة، نكرة تخيره وازن كي يدق به على قلوب الآخرين، كي يمدد من عمر دقات قلوبهم، كي يكون لهم التميمة، الصبر والوجاء، ماء النبوة، الشفا والشفاء، قلب مفتوح نص في الجراحة، جراحة الدواخل والسويداء، لكن المبضع له نثيث وحفيف لا خرز إلا بقليل من الدم ولا دم إلا قليله مما لا يتخثر والباقي فرجة على الحياة وهي ترتسم، تلوح، تلوح بمناديل البصارات اللواتي كن يطلن بإباء وشموخ على قرية الدكوانة التي غادرها عبده وازن ولم يعد، وأن عاد ففي سفر الكتب ونثار الكلم من سراج فتنته التي سيفتن بها الناس في كل حين وفي كل حين يومض ويؤجج ويستعر بين اللظى والحرائق من تستهويه الرصاصات فبين الرصاص والقلب شعرة كما كان يقول يومها الحكيم الضليع في علم المجروحين··· رغم أن وازن،رقيق،ناعم،أبيض، يحب الزنوجيات ، ودود لكنه تجرأ على خجله، على ورعه الصوفي، تقواه وملائكيته فلم يتدثر لا بلحاف الممرضة الآتية من الردهة الواسعة نحو سرير المريض الذي يستفيق على منبه البنج، ولم يتدثر بلحافات القساوسة، رغم أن زهدة ورعه و تقواه فإن نصه'' حديقة الحواس'' أبطل به مفعول رقابة ذاتية ظلت تمارس عليه، بلصوصية وإستراق، فمن ينشأ هكذا ضمن بيئة تعازيم وتعاويذ وطقسيات ويتماهى مع عبق روائحها يندر أن يتفجر أو أن يرمي بشرد الرؤيا ما يحرك الكينونات والمكائن، أحب أن أقول أن حديقة الحواس التي أثارت القبيلة ونعراتها لم تكن من بين هذا الإرث الإيروتيكي المغلوط والمشوه والتجاري لتجربة شاعر كعبده وازن راح إلى النثر نائما، يكتب من نومه، من حياته المعطلة، من سراج فتنته، من حديقته الغناء بمواويل الجسد وهو يصاعد إلى سماوات الرغبة، لقد كان لوازن تجربة انهمام بالجسد في روحانيته غير مسبوقة ضمن المسار النثري العربي أعاد بها التلاثيني المعدوم الصفات إلى الجسد أخلاقيته، حريته، كلامه، أعاد له لسانه، وينسحب التوكيد ذاته على نصه هذا فهو امتحان الجسد ببواباته، بمداخله المتفرعة وبمخارجه التي تؤدي آفاق غامضة، سرمدية، فيها الإنسياب وفيها بدر شاكر السياب كما فيها غوته وبودلير وولت ويتمان ولاوتسو وتوما الأكويني والقديس أوغسطينوس و المعلم ديكارت وابن عربي ودوستويفسكي وفيكتور هيغو··· كتابة الروح هذه كما هي وكتابة الجسد كذلك كما هي يستعرضها طفلنا الشفيف، الشفاف الذي يتكلم في روية وتوأدة وود يكتب بحنان نادر وانطلاق وحبور هي بهجة الناظر لعبده وازن في مبادلته الرأي والأدب، في ارتشاف قهوة مع ابتسامته التي تشبه نبع كتابته ذاتها وهل توجد كتابة مبتسمة ككتابة وازن مشهدية الطفل'' '' كنت و مازلت أوثر إطفاء الضوء عندما أجلس أمام التلفزيون متخيلا أنني في صالة السينما'' القليل الصحة، و هو يديم يحدق في الصور التلفزيونية مخلوطة بالظلام لمحات من ذاكرة هادئة، مطمينة، رخية، نائمة، مقدسة· كان الإنجيل من الكتب الأولى التي كنا نقرأها برهبة· أما القرآن فشرعت في قراءته لاحقا، ربما بخشوع، وكانت قراءته تختلف تماما عن الروايات··· كنت كلما فتحته أتذكر الصفة التي نعمت بها اللغة العربية متفردة، الصفة القدسية، صفة اللغة المقدسة'' فنحن هنا بين المقطعين من نصه ينهمر عليك الشاعر بهمزة وصل بين البينين، بين المنزلتين، بين الحكمة وفص الحكمة·· الليل أيضا سيد كائناته الورقية، إنه يذكره كأسير للموت ثم كأسير للحداد، ثم كأسير شهي، عذب، لذيذ للقمر، للصديق القمر· إن عبده وازن يتقن هذه الروائع، النثر حكمة الحياة، حكمة ما من الحياة'' لكن القمر كان ملاك الليل، الملاك المضيء الذي يغادر في مطلع الفجر، أصبح الليل أسير القمر، ليل بلا قمر في نظر ذاك الفتى، ليل ناقص، ليل بلا سحر، ليل مقفر مثل صحراء'' صحراء أخرى كانت تقع عليها عينه، صحراء السديم، سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءا، سديم وصحراء وعمى الجار، سؤال العمى كان رهيبا، كيف يرى جارنا وهل يحلم و هل يرى أخيلة، كيف يحب و كيف يهتاج'' و كنت كلما أبصره يخفي عينه وراء نظارتين سوداوين أتذكر صورة طه حسين وأسأل نفسي: ألا يكفي الأعمى سواد واحد حتى يلجأ إلى سواد نظارتيه؟ إلا أنني عندما أبصرته مرة يغسل وجهه، خفت من منظر عينيه المطفأتين اللتين بدتا كأنهما مشوهتان وفهمت حينذاك لماذا يخفي العميان عيونهم بالزجاج الأسود''·· جسد مريض، جسد مشوه، جسد مجروح، جسد ميت، جسد عائد من الموت، وجسد مقدس، جسد مكتوب ولهذه الأجساد كلها كتب عبده وازن برقة ووادعة لا تتوجد إلا في الأولين وربما كان منهم طه حسين·