الاجتماع الوزاري لمنتدى الأمم المتحدة لتحالف الحضارات: عطاف يعقد جلسة عمل مع نظيره البرتغالي    هذا جديد بورصة الجزائر    الجيش الصحراوي يستهدف قوات الاحتلال المغربي المتمركزة بقطاع امكالا    مظاهرة أمام البيت الأبيض نُصرةً لفلسطين    متعامل الهاتف النقال "أوريدو" ينظم حفل توزيع جوائز الطبعة 17 لمسابقة نجمة الإعلام    لخضر رخروخ : إنشاء المجمع العمومي لبناء السكك الحديدية مكسب كبير    الصيد البحري وتربية المائيات.. فرص استثمار "واعدة"    "سوناطراك" تطلق مسابقة وطنية لتوظيف الجامعيين    ضبط محاور الشراكة بين "سوناطراك" و"أوكيو" العمانية    سوناطراك تفتح مسابقة وطنية لتوظيف خريجي الجامعات    الجزائر استكملت بناء منظومة قضائية جمهورية محصنة بثقة الشعب    مسح 1410 عائلات كاملة..إسرائيل ترتكب 7160 مجزرة في غزة    لبنان : 37 شهيدا وعشرات الجرحى جراء غارات إسرائيلية على مناطق متفرقة    بعد الجفاف الذي مس العديد من ولايات الوطن.. إقامة صلاة الاستسقاء يوم السبت المقبل    الإطاحة بشبكة إجرامية من 5 أشخاص بوهران    حرائق سنة 2024 مقبولة جدا    نظير جهوده للرقي بالقطاع..الاتحاد الوطني للفلاحين الجزائريين يكرم رئيس الجمهورية    جائزة الشيخ عبد الكريم دالي : حفل تكريمي للفنان الراحل نور الدين سعودي    الأيام السينمائية الوطنية للفيلم القصير بتبسة: فيلم "القناع" للمخرج فيصل قادة يفتك المرتبة الأولى    الملتقى الدولي للمهرجان الثقافي للفن المعاصر : منصة للتبادل والتحاور في مواضيع الفن المعاصر    "السي أس سي" في تونس دون بلحوسيني وبن ميصابيح    المغرب: وقفة احتجاجية في مواجهة قمع المخزن واستهداف الحريات    البحث عن بداية إفريقية مثالية    وسيلة حساسة لا بدَّ من حسن استعمالها    معالم في تأسيس الهوية الوطنية    ملتقى وطني حول حوادث المرور    الكيان الإرهابي يعلن الحرب على أطفال غزّة    منتدى الأمم المتحدة لتحالف الحضارات بالبرتغال : الجزائر تطرد مجرمة الحرب الصهيونية تسيبي ليفني    الفترة المكية.. دروس وعبر    شنقريحة يلتقي وزير الدفاع الكويتي    العدوان الصهيوني على لبنان: الأمم المتحدة تجدد دعوتها لوقف إطلاق نار دائم وفوري لإنهاء خسارة الأرواح والدمار    وزير الصحة يشرف على اختتام أشغال الملتقى الدولي الثامن للجمعية الجزائرية للصيدلة الاستشفائية وصيدلة الأورام    معرض الحرمين الدولي للحج والعمرة والسياحة بوهران: استقطاب أكثر من 15 ألف زائر    تسيير الأرشيف في قطاع الصحة محور ملتقى    حوادث الطرقات: وفاة 5 أشخاص وإصابة 66 آخرين بالجزائر العاصمة خلال شهر أكتوبر المنصرم    رابطة الأبطال الإفريقية: تعادل ثمين لمولودية الجزائر أمام تي بي مازمبي في لوبومباشي (0-0)    الجزائر قامت بقفزة نوعية في مجال تطوير مشاريع السكك الحديدية    السيد سعداوي يترأس ندوة وطنية عبر تقنية التحاضر المرئي عن بعد    الفروسية : كأس الاتحادية للمسابقة الوطنية للقفز على الحواجز من 28 إلى 30 نوفمبر بتيبازة    رقمنة القطاع التربوي: التأكيد على "الانجازات الملموسة" التي حققتها الجزائر    الدور الجهوي الغربي الأخير لكأس الجزائر لكرة القدم: جمعية وهران -اتحاد بلعباس في الواجهة    رئيس الجمهورية يشرف على مراسم الاحتفال بالذكرى ال50 لتأسيس الاتحاد الوطني للفلاحين الجزائريين    شركة جزائرية تبتكر سوار أمان إلكتروني لمرافقة الحجاج والمعتمرين    توقيف مُشعوذ إلكتروني    إعادة انتخاب دنيا حجّاب    ندوة بمناسبة اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة    دروس الدعم "تجارة" تستنزف جيوب العائلات    الرئيس تبون رفع سقف الطموحات عاليا لصالح المواطن    رسميا.. رفع المنحة الدراسية لطلبة العلوم الطبية    التجريدي تخصّصي والألوان عشقي    العميد يتحدى "الكاف" في اختبار كبير    استذكار أميرة الطرب العربي وردة الجزائرية    "تسيير الارشيف في قطاع الصحة والتحول الرقمي" محور أشغال ملتقى بالعاصمة    الابتلاء المفاجئ اختبار للصبر    وفاق سطيف يرتقي إلى المركز الخامس        هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



''الجزائر نيوز'' في أرض فلسطين (الحلقة الثانية)

يروي لنا الزميل الياس بن سالم في الحلقة الثانية من ربورتاجه المثير زيارته لعدة معالم أثرية ودينية بالقدس المحتلة وكانت محطته الأخيرة من زيارته إلى فلسطين المحتلة مدينة رام الله حيث يرقد ضريح البطل الشهيد ياسر عرفات وفقيد الشعر العربي محمود درويش ··· تابعوا
وعند المرور بنقطة المراقبة في نهاية اليوم، بين بيت لحم والقدس، لاحظت أن البناية مهيبة: كتل من الإسمنت، دعامات حديدية، ولكن ثمة أيضا، بحث حقيقي عن عناصر جمالية· والواقع، أنها البناية العسكرية الوحيدة في كل فلسطين المحتلة التي تبدو بملامح مركز حدودي بين دولتين· وعند عبورها امتلكنا إحساس بأننا انتقلنا إلى بلد آخر· وهذا أمر مقصود، عمدا، ليزرع في أذهان الفلسطينيين، أن القدس هي العاصمة الأبدية لإسرائيل؛ فعندما يمرون على هذا ''المركز الحدودي'' ينتهي بهم الأمر إلى الاقتناع بمغادرة فلسطين للذهاب نحو إسرائيل· ولم يسند لنقاط مراقبة أخرى مثل هذا الهدف؛ فعلى سبيل المثال، فإن نقطة مراقبة الخليل، تندرج في نوع من آلية مراقبة شاملة تبدأ بطابور انتظار طويل يعاني فيه الشخص هشاشة تدريجية ليصبح مجرد حامل وثيقة وضع فيها كل آماله لعبور النقطة· وأحيانا، يتم الانتقال بينما يفشل في أحيان أخرى· ويتوجب على المرء عندئذ العودة من حيث أتى، أو الاتصال بالزوجة في البيت لإخطارها بالأمر لتتدبر حالها في انتظار المرور·
وقد يتم ذلك بعد تغيير الحراسة إذا كان الجنود لطفاء··· لقد واجهنا كلنا نقاط المراقبة في بيت لحم ونحن واعين بأننا نعيش تجربة خاصة؛ تخوف بسيط يقبض على الحنجرة، ونحن تائهين مثل العجول في متابعة لعبة بطريق ذي معالم مضيئة· كنا نشد بشكل وثيق على مفتاح سمسم الثمين· لقد لعب جواز سفرنا، ذو اللون الأحمر مثل النبيذ الممثل للمجموعة الأوروبية، دور فاتح المسالك الناجع· ورغم سحنتنا السمراء، يصبح الجندي الإسرائيلي، فجأة، أكثر احتراما، بل مُرحبا بنا ما أن يرى أنني رعية فرنسية وأن ليس لي سوى رباط بعيد مع الناس المكلف بتسييرهم يوميا·
ذات يوم، كنا، باكرا، في جبل الزيتون، ومدينة القدس أسفلنا تحت شمس رائقة· وتحركت المجموعة، والهدف هو النزول على الأقدام، مرورا ب: دومينيس فليفيتا (الرب يبكي)، هضبة سدرون ثم القديس بيير غاليكان·
وبعد منتصف النهار، طرقنا طريق الصلبان الآخر، وليس هذا الطريق هو الطريق الذي ميزه المسيح بشهادته، ولكنه طريق الشعب الفلسطيني منذ النكبة· في أول الأمر، زرنا آثار قرية فلسطينية في القدس الشرقية· وقتئذ، طرد سكان القرية من بيوتهم منذ جوان 1967 بعد الاستيلاء على المدينة المقدسة من طرف موشي دايان·
محطتنا الثانية، كانت الجدار والمستوطنات، المعالم الحقيقية للضم النهائي للقدس إلى إسرائيل· وكانت إحدى المحطات المميزة لدرب الصليب المعاصر لهذا ليسوع فلسطيني هي ذلك المنزل المهدم فوق أعالي القدس· لقد بني البيت بفضل المال الذي تم الحصول عليه في المنفى في بلدان الخليج بعد سنوات من الحرمان· وبجرة قلم، قررت إدارة الاحتلال الإسرائيلي تهديم الطوابق الأربعة طالما أن مالكه لم يتوفر على رخصة بناء قانونية· والواقع أن ذلك سوى مبرر لأن صاحب الأرض أودع الطلبات الواحدة تلو الأخرى حتى يتمكن من بناء بيته على أرض أجداده· وبعد رفض وراء رفض، وفي حالة تثبط، جازف الرجل، مجبرا، بتوسيع داره؛ وقد تركه البيروقراطيون يعمل، وما أن سكن البيت مع عائلته الكبيرة، حتى انطلقت الآلة القضائية ضده· وبعد وقت قصير، وقع سيف الحكم عليه: يجب تدمير البيت، وهو أمر تم بسرعة تحت أنظار كل أفراد عائلته الباكية· وعندما زرنا المكان، لم تبق من البيت سوى كتل من الإسمنت والحديد المكور· وكانت تتناثر في أنحاء المكان أدوات البيت التي لم يتم إجلاؤها في الوقت عندما انخرطت الجرافات في العمل·
المحطة الثانية التي يعاني فيها المسيح في ذاته وفي شعبه، هي منزل عائلة الكرد· ويتعلق الأمر بعملية تجريد حقيقية تعرض لها العرب في قلب المدينة المقدسة· وهذا المسار، الجاري منذ سنوات، يسعى لأن يكون صامتا وسريا، ولكنه مسار ناجع· ويستعمل واضعوه ومنشطوه كل الوسائل المتوفرة لديهم؛ ''الشباك'' (الشرطة السرية)، الرشوة، التعويض الضخم والمساعدة السريعة والناجعة لتمكين الفلسطينيين من الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا· والهدف من كل هذا هو: تفريغ أحياء بأكملها من المدينة القديمة من سكانها العرب· وقد بدأ النجاح في الظهور، وبقع الفهد ترتسم بوضوح على جسد المسيح المُعَذَّب· هنا، استقبلتنا السيدة فاطمة الكرد، الملتحفة بالكرامة والشجاعة· كانت تتحدث بسرعة ليس بدافع الغضب، وإنما بلهجة مثقل القلب بأشياء يود البوح بها في أقصر وقت، لجمهور قد يُستَفَز ويغادر المكان· وبالفعل، فإن بيتها محاصر بطلائع المستوطنين اليهود· وهم شبان أقوياء ومدججين بالسلاح، سواء الرجال منهم أو النساء، وهم عارفين بما يتوجب عليهم فعله: المضايقة المستمرة لفاطمة وزوجها المريض حتى يبتعدوا من المكان· وحتى الجنود يسدون لهم الدعم والمساعدة، طالما أن نقطة دور المراقبة التي أقامها الجيش في الحي هو تعويض غياب المستوطنين والسهر على منع ''نشطاء السلام'' المقيدين، دوما، في بيت عائلة الكرد من الاستخلاف وأخذ قليل من الراحة· لقد كان هؤلاء ''الجنود الإنسانيين'' طيلة أشهر وأسابيع الحماية الوحيدة لعائلة الكرد· وقد علمنا، فيما بعد، أنه رغم ذلك، تم طرد فاطمة وزوجها من البيت الذي تمت مصادرته· ولم تعش الزوجة سوى وقت قصير بعد هذه النكبة·
ثم جاء دور ياد فاشيم: محطة عذاب آخر، غير عذاب اليسوع، وإنما هو عذاب أبناء إبراهيم: اليهود· البناء مهيب مبني في حظيرة خضراء· ويا لروعة التجول بها، إذ يكفي المرور من قاعة إلى أخرى ليرى المرء العذاب الحديث ليهود أوروبا· وقد أجاد الإسرائيليون الصنيع للحفاظ بطريقة حية على هذه الذاكرة· هنا نجد كل شيء؛ صور، وثائق، أفلام، شهادات مجمعة، أشياء، مشاهد مستعادة وبيداغوجيا متجددة حتى لا تشعر الأجيال الجديدة بإهمال الزمن ولا مادية التاريخ· عندما دخلت ياد فاشيم، كنت في حالة جد متجاذبة لا تكف عن التزايد· لقد قرأت الكثير من الكتب ورأيت الكثير من الأفلام حول المحرقة وكل مرة كنت أخرج باكيا· وخلال تجولي في أروقة ياد فاشيم، كنت أطرح على نفسي هذا السؤال: كيف لشعب عانى مثل هذه المعاناة، أن يسمح بارتكاب مثل هذه الجرائم· وتساءلت، أيضا، في قرارة نفسي عما إذا كان عدد القتلى ضحايا النازية يتوافق مع ما يتم من سلب واحتلال في حق الفلسطينيين· ولا زلت، أيضا، متأكد من أن الكثير من هؤلاء ''العادلين''، وهم من غير اليهود الذين جازفوا بإنقاذ أطفال إسرائيل المقبلة، لن يكونوا متفقين مع فكرة قيام هؤلاء الأبناء أو ذريتهم بممارسة الرعب ضد أطفال فلسطين· هكذا تعاملت مع هذا المقام التذكاري، مع تشبثي باحترام التاريخ والمعاناة اللذان عرفهما هؤلاء الرجال والنساء والأطفال· وفي فلسطين الوليدة، هل سيقام مقام تذكاري للحفاظ على ذاكرة هذا الشعب الذي عاني كثيرا؟ هل سينافس هذا المقام ياد فاشيم أم هل سيعارضها؟ آمل في أن ينتبه الفلسطينيون بذكاء لتربية أبنائهم ليس ضمن الحقد والروح العدوانية وإنما في ذكرى حية وأخوة في حاجة إلى بناء مستقبلا·
أما اليوم، فإن الواقع لا يزال مريرا، لهذا فإن ''تامار أبراهام'' من جمعية ''نساء في نقطة المراقبة'' هي، اليوم، من ''العادلين الجدد'' لشعب إسرائيل· وبهدوء وحزم، مثل العديد من النساء الإسرائيليات، تتوجه نحو مختلف نقاط المراقبة لملاحظة، ونقل الوقائع وأحيانا للتحرك قصد إخبار الرأي العام بما يعانيه الفلسطينيون من إزعاج في حياتهم اليومية قبل اجتياز نقاط المراقبة· وفي نشاطاتهن، اخترعت تاكار وزميلاتها حيلا بارعة لمساعدة الفلسطينيين على التحلي بصبر أيوب· فهن يوزعن المجلات، والكتب والجرائد في طوابير الانتظار قصد استمرار الناس في التثقف في انتظار اجتياز عوائق الاحتلال· كما تريد تلك النساء الشجاعات التحرك حتى لا يقرر الجنود الشبان الإسرائيليون، في إحساسهم بالقوة، مصير هذا الشخص أو ذاك من هؤلاء السكان المكلفين
بتسييرهما ويقررون ما يحلو لهم خلال كل أيام السنة· إن تامار والأخريات، المسرعات دوما، تردن على أدنى تجاوز مفرط بالاتصال الهاتفي بالضباط قادة حراس الحدود· وأحيانا، يعطي هذا المسعى نتائج جيدة حتى وإن يحدث أن يكتفي القائد بتسجيل الشكاوى· ورغم هذا، يبقى، في نظر تامار وتلك الأمهات الإسرائيليات، اللائي يؤدي أبناؤهن خدمتهم العسكرية، الأمل في سلم عادل أمل لم ينطفئ ذلك لأنهن يتعاقبن بدون توقف لإبقاء الشعلة متقدة·
''في ذلك اليوم، دخل عمر فوق جمله الأبيض الشهير، بينما كان بطريرك المدينة المقدسية الإغريقي يتقدم للقائه· وقد بدأ الخليفة بتأكيده على اِحترام حياة وأملاك كل السكان، قبل أن يطلب منه زيارة الأماكن المقدسة المسيحية· وبينما هما في كنيسة القيامة حان وقت الصلاة، فطلب عمر من مضيفه أين يمكنه بسط سجادته للصلاة· فدعاه البطريرك إلى البقاء في مكانه، فرد عليه الخليفة: ''إذا فعلت ذلك، فإن المسلمين سيأتون غدا لامتلاك هذا المكان قائلين بأن عمر صلى به''· ثم حمل سجادته وذهب للركوع خارج الكنيسة: لقد كانت نظرته صائبة إذ تم فيما بعد بناء المسجد الذي يحمل اِسمه''· كانت في ذهني هذه الواقعة التاريخية عندما هممت بالدخول إلى كنيسة القيامة· وقلت في نفسي كم هو بعيد زمن الخليفة عمر· واليوم، فإن قبر المسيح تحت حماية الجيش الإسرائيلي· وفي الباحة، كان هناك جنود يحرسون المكان؛ وكانوا يغربلون الحجاج بأنظارهم· كنت خائفا من أن يشيروا إليّ بالتوقف لأن سحنتي ليست سحنة أوروبي في عطلة، وإنما سحنة عربي ليس من هذا المكان· الجنود ورجال الشرطة الإسرائيليون متعودون على لمح، لا أدري كيف يكون ذلك، أي عربي لا يسكن القدس، ويقال إن أحذيتهم هي التي تخونهم· هل هناك من يفهم ذلك؟ إن هذا الأمر يذكرني ب ''الساعة الخامسة والعشرين''، رواية ل ''فيرجيل غيورجيو''· في كتابه هذا، يصور الكاتب الروماني تلك الشخصية المعادية للسامية القادرة من الوهلة الأولى على التعرف على اليهودي· وحسبه، فإن المرء لا يرى من وجه اليهودي سوى أنفه الكبير· فهل يكتفي الجندي الإسرائيلي على أن لا يرى من العربي سوى قدميه؟ يمكنني، إذن، أن أدخل إلى كنيسة القيامة· في الوسط يقوم القبر المهيب المفترض للمسيح، لكن الزائر لا يخطئ، إذ أن بصره لا يذهب إلا إلى هذا الكهف الصغير، في مكان منعزل، بسيط ومجرد من الزخارف، قابع في الظلمة· هنا، نحس، حقا، بحضور المسيح· والمكان قليل التهيئة بحيث يجعلنا نعتقد بأن بقايا هذا النبي لا يمكن إلا أن تكون موضوعة في هذا المكان المتواضع والمنعزل·
وصلنا حائط المبكى؛ ليس بالمكان ما يثير النظر· وإنما هو مجرد جدار إسناد لباحة المسجد الأقصى، ولكنه في نظر اليهود أمر آخر، إذ يعتبرونه الجدار الغربي لهيكل سليمان· وإلى حد الآن، لم يتمكن المؤرخون ولا علماء الآثار من إثبات أي شيء بخصوصه· والشعيرة العبرانية الباقية تجعل منه ''كعبة'' اليهود، إذ نراهم يتمايلون وهم واضعين الكيبا، والتلد (وشاح للصلاة) والتميمة، حاكيتهم بوضع كيبا وحاولت الاقتراب قدر الإمكان من الحائط· لقد كان محشوا بالرسائل، وقصاصات الورق الموضوعة في فجوات· توجهت نحو أحد المصلين؛ لقد بقي بشوشا ولكنه مع ذلك اندهش من رؤية عربي، مسلم، يقترب إلى هذا الحد من ''قدس الأقداس''· وبدوري اندهشت من قلة عدد المتدينين التقليديين في المكان· وفي الجمهرة، هناك من ''اليهود السياح'' مثلي، حاملين آلات تصوير، وكاميرات أخرى، مرتدين زيا حضريا، موحدا يلبس في الجزائر مثلما يلبس في القاهرة أو تل أبيب· إذن، الأقلية الممارسة لهذه الشعيرة هي التي أثارت انتباهي أكثر من الجمهرة· وسمعت مرشدنا يقول: ''الجدار الغربي هو رمز وطني، أيضا، وفيه تنظم احتفالات غير دينية خاصة منها الترحم على ذكرى الجنود الذين سقطوا من أجل الوطن وضحايا الإرهاب المعادي لإسرائيل''· ها نحن نرى كل مرة وضع السياسي يده على الديني·
أخيرا، وصلت إلى المسجد الأقصى· وبإمكاني أن أؤدي ركعتين حتى وإن كنت لا أمارس كثيرا الشعائر الدينية· ولكن في المدخل، حدث هلع بسيط: جمع من الشرطة والعسكريين يراقبون المارة ذلك لأن لا يمكن لغير المقيمين في القدس القدوم إلى هذه الأماكن إلا يوم الجمعة للصلاة· ومنذ اندلاع الانتفاضة، أصبح هذا من الأمور الصعبة؛ إذ لا يقبل في باحة الأقصى سوى من تفوق أعمارهم الخمسين· وعندما وصلت أمام الجنود سمحوا لي بالمرور بينما كنت أهم بإظهار جواز سفري الفرنسي إذا ما أوقفوني· وكان انطباعي الأول عن المكان انطباعا معماريا وغير روحي إطلاقا· إن القدس هي سلسلة من الربى والأودية· وفي السير على الأقدام بها، يتوجب أن يكون ماشيا جيدا ذلك لأن بها ''مرتفعات'' صغيرة متناثرة تتعب حتى الأقوياء· وهذا غير موجود هنا في باحة الأقصى، فالأمر مختلف تماما؛ إذ أن سهولة الوصول إليها هي أول ما يثير الزائر· وعند أول نظرة يصبح كل شيء سهلا· وقد تملكتني رغبة في السير في مختلف الاتجاهات· ودون أن أدري، فقد ذكرتني هذه الساحة الكبيرة بساحة مدينة غرداية في الجنوب الجزائري· جوهرة الصحراء، المدينة الخماسية على شكل حلزون· وكل سنتيمتر مستغل بشكل ثمين، ولكن في أسفلها ثمة أغورا تجمع المزابيين في سوق للمزايدة فريد من نوعه·
وعلى قبة الصخرة ليس ثمة عارض ولا بائع ينادي، وإنما الهدوء والسكون، إذ يمتلك الناس إحساس بأنهم قريبين من السماء؛ فيدعون إليها واحدا ويتضرعون إليه ليخلصهم من الآخر·
آخر محطة في هذه الرحلة؛ رام الله· في المدينة لم أر شيئا ذا بال؛ والواقع أننا قصدناها لرؤية مكانين من أهم الأمكنة في التاريخ الحديث للفلسطينيين· المُقطَّع، حيث يرقد جثمان عرفات، والمركز الثقافي الملاصق لقبر الشاعر الفلسطيني محمود درويش· أمام، تمثال عرفات، امتلكني إحساس بالفخر، إحساس تحية رجل، استطاع، خلال عقود من الزمن، خوض صراع إلى نهايته: معركة إنشاء دولة فلسطينية، حتى ولو اقتضى ذلك التحالف مع العدو· ورغم الضغوط الممارسة عليه من كل جهة من إسلاميي حماس الشعبويين، ومن القوميين العرب الأوائل، وأخوة السلاح ورؤساء الدول العرب، إلا أنه لم يحد عن ذلك لأنه تعلم من صراعه مع الإسرائيليين مبدأ ''خذ وطالب''· وهذا أمر لا يحسنه العرب· ولكن ومع ذلك فقد حافظ الرجل على شرفه· فعندما أراد بيريز، باراك وشارون مقايضته بسلام مغشوش، رفض ذلك وقاوم· عندئذ، حطمت إسرائيل، تحت أبصاره، حلم الدولة الناشئة، ولكنه لم يخضع لها إلى غاية موته·
رجل آخر يرقد غير بعيد عن ضريح عرفات، إنه محمود درويش، الشاعر الفلسطيني الكبير، ومنشد الأمة العربية· وبإمكان ملايين من العرب أن يذكروا للمرء، في أي وقت، أشعارا طويلة له حفظوها عن درويش، لشدة بلورة أشعاره الأمل، والجمال والحق· ومنذ اختفاء أحمد شوقي ''أمير الشعراء''، سيد القصيدة العربية بلا منازع، لم تفتن الجماهير العربية بشاعر آخر قبل مجيء محمود درويش· ولا زلت أتذكر الحناجر الطليقة في مظاهرات الدعم المنظمة لفلسطين في الجزائر وفي المدن الجزائرية الكبرى· كانت آلاف الأصوات تغني بأقصى طاقتها مرفوقة بموسيقى مارسيل خليفة، قصيدة ''إلى أمي''·
واليوم، أنا هنا، أمام قبر الشاعر الحديث· أردد شعره كشاهد قبر، أمام جمع من الأصدقاء القادمين من فرنسا، الذين سافروا معنا· وكان لديّ إحساس بأن درويش يسمعني وأنه يتمتع وهو يرى أن عمله باقي، ليس فقط على فم عربي قدم من المغرب البعيد، ولكن أيضا، لأنه لا يكف عن التوسع بين جمهور جديد يردد أبياته: ''نلتقي بعد قليل، بعد عامين أو جيل··· وطني حبل غسيل لمناديل الدم المسفوك في كل دقيقة· أنا شاهد قبر يكبر· أنا الذي تحفر في جلده المواسم وجه وطن···''·


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.