ها إنه يرحل·· يرحل صامتا وفي يده جمرة الفكر والاعتزال والتنوير· ها إنه يرحل·· يرحل أستاذنا الأول ''محمد أركون''، صديقنا ومحرضنا على المساءلة العقلية واجتراح النقد من أجل تجاوز الأحكام التعميمية المنغلقة والتسطيحات الرديئة والعصابيات المقيتة والهشاشات الفجة· أعطانا مصباحه الخالد وقال لنا إمضوا بسلام·· ها إنه يرحل·· يرحل مؤرخ التراث الإسلامي ومجدده، ناقد العقل الديني ومحلله، موسع السبل والأبعاد ومضيئها، مميط اللثام عن خدع التدجين المهيمنة على أنظمة التفكير، الممسك بزمام المصطلح والمنهج، المنتصر للب والجوهر، الهازئ بالقشور والطلاءات المزيفة، المتنور الأكبر، المغامر بعقله وروحه وكيانه، الفاتح ذراعيه للريح، موقظ الطوفان من سباته، منزل اليقينيات من عليائها، مخرج الماضي من كهوف قدسيته· ها إنه يرحل·· يرحل البروفيسور الجزائري العظيم يرحل المتمرد الأمازيغي الكبير·· يرحل الثائر المثابر الرافض للمهادنة·· يرحل الواقف وحده أمام وحش الأصولية الذي يداهم أيامنا ويعبث بخيراتنا الثقافية·· يرحل المعتزل الأعزل الذي عاش وحيدا ومشى وحيدا ومات وحيدا، لم يغرقْ ولم يحنِ رأسه للتيار، عاند وقاوم وصارع بروح متمردة فلم تهزمه تلك اليد السوداء التي تمنعنا اليوم من الإقتراب إلى دائرة النور· وداعا ''محمد أركون''·· كانت باريس مضيئة بك وها هي اليوم دامعة الأنوار·· كانت الجزائر تفخر بك وترعاك بحبها من بعيد، وهي اليوم تأسف لأنك لفظت أنفاسك المعطّرة بعيدا عن حضنها· كنتَ مجبرا على الهجرة، لهذا فهي لن تنساك، سترعى أبناءك الذي لن يهاجروا ولن يطمئن لهم بال حتى يعيدوا النهر إلى مجراه الحقيقي· وداعا ''محمد أركون'' أنا أبكي··