تعرفت إلى الشاعر والمحامي الكويتي دوخي محمد الحصبان في ثمانينيات القرن الماضي، عرفته شاعرا رقيقا وقانونيا بارعا وإنسانا كبيرا· كان قد تعلم في الكويت وتخرج من حقوق القاهرة حيث ترأس اتحاد الطلبة الكويتيين فيها· عرفته شعلة من نشاط، وإطارا عاليا من إطارات الفكر الوطني الكويتي والقومي العربي، وحقوق الإنسان· وقد تخصص بالمرافعة في القضايا العويصة وله اجتهادات·· وكان يرى أن المحامي الذي يكتفي بأن يكون ساعي بريد بين المتهم والقاضي لا يضيف إلى العدالة شيئا ولا يساعدها في جلاء الحق·· لذلك تجد في مكتبته أشكالا وأنواعا من كتب القانون، ويستعين بطاقم مبدع من أساتذة القانون العرب وغير العرب·· وله براعة في معرفة دهاليز القانون ومداخله ومخارجه·· واكتسب بذلك شهرة بين الناس وفي أوساط القضاء. حسب دوخي على هيئات الفكر القومي والوطني وحقوق الإنسان في الكويت وله شعبية بينها، كما له شعبية بين عشيرته، فهو من عشيرة الصقور إحدى أقسام قبيلة عنزة الحاكمة في الخليج، وللصقور امتدادات في الأردن وغيره من البلدان العربية· ورغم انشغالاته وسعة علاقاته؛ إلا أنه يحرص كثيرا على علاقاته مع قبيلته من البدو فديوانيته (والديوانية هي بيت الضياف في لهجة الكويتيين) لا تخلو من سهراتهم وتجده يشارك في أعراسهم، وكان يصطحبني معه إلى بعضها، فأراه يغني ويرقص رقصة (الدحية) وهي رقصة بدوية عمرها قرون· ويقدره أبناء عشيرته وينادونه ابن الحصبان· والبدو في تلك الديار يضيفون اسم بن للذي في لقبه شرف وإلا فهو ولد، ودوخي كان والده وجده وعائلته قبل استقلال الكويت يتحمّلون مسؤولية حماية الثغور، أي الحدود، وهو شرف كبير ولاشك.. كان يتألم كثيرا من الحرب العراقية الإيرانية ويقدم لها تحليلا وقف الناس عليه بعد سنين، فقد كان يقول: إنها ليست حربا تدافع عن البوابة الشرقية، بل هي بوابة مفتوحة على المجهول·· فكتاب الحرب هين فتحه، صعب إغلاقه· ولكن قليل من الصحب في ذلك الوقت كما في كل وقت من يسمع لصوت العقل. كان يعجبني في صديقي دوخي الحصبان أمران نادران في سلوك شباب هذا الزمان، أولهما طاعته لوالدته وحرصه على زيارتها يوميا، وثانيهما اهتمامه بإخوته فهو لا يكاد يتكلم في مجلس يحضره أخوه الأكبر حتى لتظن أن في الرجل بكما مع أنه طليق اللسان قوي البيان، وأما إخوته الصغار فرعايته لهم وحنانه عليهم يثير فيك العجب... وحين دخل الجيش العراقي إلى الكويت في تسعينيات القرن الماضي، قال دوخي هذا ما كنا نخشاه، إنها غزوة للعقل القومي وليس للكويت·· وقد غادر كثير من الكويتيين والوافدين إليها من عرب وغير عرب إثر تلك الغزوة هذا البلد النفطي الصغير·· أما دوخي فقد كان من المثقفين القلائل جدا الذين بقوا في الكويت وشكل فريقا للمقاومة واختفى عند عائلة فلسطينية ولم يعرف به أهله طوال تلك الفترة رغم أنه كان في مخبئه يتألم على أخيه الصغير الذي تم أسره، وحين انزاحت غمة الغزو انتقل المجتمع الكويتي بغضبه نحو العرب وخاصة الفلسطينيين، فانبرى دوخي للدفاع عنهم ليس فقط في ساحات القضاء بل في الحياة العامة، حيث الديوانيات والمجالس·· وأكد أن أخطاء الساسة لا تتحمّلها الأمة، وقد واجه في هذا الموقف الكثير من العنت·· فقد كان الرأي العام ضده وضد المجموعة القليلة التي تقول بقوله، خاصة وأنه ظهر في الأدب السياسي في تلك المرحلة تعبير دول الضد وفي عوامنا وحتى في طبقاتنا العربية المتعلمة من يخلط بين الشعب والدولة·· لكنه، وبجهد من معه، طويت هذه الصفحة من الشعور بالألم وعاد الشعب الكويتي في طليعة مؤيدي الكفاح الفلسطيني كما هو عهده، فالكويت كانت تطلق على نفسها منذ قرون اسم الكويت - بلاد العرب، وظهر ذلك في التسميات الرسمية خلال القرن العشرين في تسعينيات القرن الماضي، ذهبت مع عدد من الصحفيين الجزائريين إلى الكويت بدعوة من وزارة الإعلام الكويتية·· وما أن وصلت الفندق حتى غادرته متجها إلى مكتبه القريب؛ فكان لقاء ليس ككل لقاء· وعلى الفور هاتف إدارة الفندق لتجعل من تلك الغرفة (سويت) وأن كل المصاريف من هواتف وضيوف التي لا تتكفل بها وزارة الإعلام تضاف إلى فواتير شركة السياحة التي يملكها.. وقدمت له الزملاء والزميلات من الصحفيين الجزائريين، فأكرم وفادتهم في مكتبه وفي منزله·· وسهل لهم الكثير من لقاء بعض الشخصيات التي تهمهم في عملهم·· بل أنه أمن لهم مبيتا في دمشق عند العودة بانتظار الطائرة إلى الجزائر، وحملهم الكثير··· لكنهم لم يكتبوا له ولو عبارة شكر قصيرة، وأما أنا فلم أر بعضهم حتى اليوم، فالدنيا صندوق عجب. حين أصدرت مجموعتي القصصية عباس فاضل الإعتيادي صدرتها بإهداء له فسر لذلك، وكنا نتكاتب فترة من الزمن وكنت أحرص خلال أدائي للعمرة أن أتصل به من هناك، فذلك الجو الروحاني لابد يذكرك بأصفياء الروح والقلب من أمثال دوخي الحصبان. وحين صعبت أيامي ودخلت دار المسنين، اتصل بي الرجل ليبلغني استعداده ليخصص لي من مكتبه مرتبا شهريا يصل إلى عندي· فشكرته قائلا إن أزمتي على ثقلها لم تصل بي إلى هذا الحد، فهنا في الجزائر رجال يقفون معي بل وصبايا يكتبون مذكرات تخرجهن عني وكتّاب وكاتبات يكتبون عني ··· فيقول: لم تخرج من جلدك·· آخر شيء تفكر فيه المال وهو عصب حياة الناس فلِمَ لا تريده أن يكون عصب حياتك.. صار دوخي الحصبان رئيسا لجمعية المحامين الكويتيين ولا يزال صوته عاليا في الدفاع عن المظلومين، ولا يزال يجتهد في تلك القضايا العويصة·· ولكني لازلت أتمنى أن يرفد المكتبة القانونية العربية ولو بكتاب واحد، خاصة وأن اجتهاداته القانونية تلك استفاد ويستفيد منها أهل مهنته· لايزال دوخي يقول الشعر الفصيح منه والعامي، ولا يزال يشارك الناس في أفراحهم، ولا يزال في قلبه الكويت والعرب والإنسان·· مع أن الكثير من الصحب جرفهم التيار حتى أن بعضهم طار إلى أن وقع. وكم أفرح وأنا في السبعين بأني عرفت فيها رجالا لم تخيفهم السنان ولم تغيرهم السنون مثلك يا ابن الحصبان·