الوقت هو خريف عام 1977 من شهر سبتمبر، الحركة دؤوبة في دارنا القديمة بقرية ''المالحة'' بالدوسن، حيث تجري الترتيبات ليوم غد المشهود· والدتي تجتهد في إعطاء الانطباع بأن كل المتطلبات جاهزة؛ المحافظ جاهزة، القمصان البيضاء التي تغطي ياقاتُها الأكتافَ جاهزة·· الأحذية السوداء والسراويل التي بلون التراب جاهزة أيضا·· المناديل المخططة والأحزمة الجلدية·· كل شيء على ما يرام لدخول مدرسي ناجح·· خصوصا الأحزمة فهي تعني الكثير بالنسبة للأولاد اليافعين، وهذا ما يجعل أخي محمود يلفت انتباهنا إلى اختراع مبهر يخص حزامه، إذ يقول لأمي: ''ليس هكذا دعيني·· أنا سأهتم بالأمر''· ثم يشعل سامر عافية (نار) ويقوم بتسخين مسمار إلى أن يحمرّ لونه ويضيف به ثقبا في حزامه حتى يكون على مقاسه، ويقول في آخر الأمر: ''كما ترون··· إن باقي الثقوب التي وضعتها الحكومة في الحزام لا لزوم لها الآن''. في طفولتنا كنا نعتقد أن الحكومة هي التي تصنع الأحزمة والسراويل والشاشيات والمقرونة وحلوة القوفريط والبراغي··· أما بقية الناس على غرار أخي وحتى والدي، فهم يقومون بتقليد الحكومة فقط ولا يفلحون عادة· أمي تقول ضاحكة لمحمود الذي نجح في صنع ثقب أصلي في حزامه: ''يبرّدْ وجهك··· ما الجديد في هذا···''· فيرد بثقة عالية: أنظري هنا··· إن ثقبا يُصنع بهذه الطريقة الذكية لا يمكن أن يكون عرضة للاتساعب· وقد يضيف بلغة (الفتى المخ): اهذا ما تفعله تلك الماكينة الضخمة الخاصة بصنع الثقوبب· وأين رأيت هذه الماكينة؟. لا أحد بوسعه أن يراها فهي لدى الحكومة فقط. ولا تجد أمي في قاموسها ما تقوله ردا على أخي وقد أفحمها بحجته، إلا تلك العبارة المعتادة: ''يبرّدْ وجهكا· مرة سألت أمي: ''ماذا تعنين عندما تقولين هذا''؟·· فأجابت: ''لا أعني شيئا سوى أنني لا أريد الكلام''. لطالما فكرت أن لأمي رد فعل مختلف تماما إذا ما تعلق الأمر بوالدي الذي عادة ما يتسبب في تكسير وإتلاف أشياء كثيرة في البيت ويعيد إصلاحها ثانية، مدعيا أنها صارت جيدة وتؤدي الغرض أكثر مما كانت عليه في السابق، وهذا ما حدث عندما دخل والدي ذات مساء ووضع دراجته قرب الموقد وخرج للعب ''الخربقة'' مع عمي ''المداني'' فسقطت الدراجة على الموقد واحترق مقعدها· عندما عاد أبي أخبرته أمي بذلك وكانت خائفة أن يعاقبها لأنها لم تتنبه لكنه لم يفعل لأن القدر قد تحالف مع أمي وألهم والدي قدرا كبيرا من الذكاء فهزم عمي ''المداني'' على غير العادة في لعبة الخربقة، وهذا ما جعل مزاجه جيدا ذلك اليوم· فقال لها: لا عليك·· أنا سأهتم بالأمر. أخذ والدي قطعا من أكياس الدقيق المصنوعة من الخيش ولفها بإتقان واستعمل ''إبرة السروج'' في خياطة أجزائها ثم ثبتها على بقايا المقعد المحترق· وقال لأمي: هذا هو مقعد الدراجة الجديد·· شهادتك لله·· أليس أفضل من الدوريجين (الأصلي)؟ انتظرت يومها أن تقول له أمي عبارتها المشهورة تلك: ''يبردْ وجهك''، خصوصا أن المقعد الذي صنعه أبي لا يشبه أبدا المقعد الذي صنعته الحكومة بآلتها الضخمة، تلك التي أخبرنا بها أخي· بل إنه مقعد يدعو للسخرية حقا، لكن أمي فاجأتني أنا على الأقل بأن قالت له: يا إلهي··· كيف فعلت هذا·· والله إنه لأفضل شيء فعلته!!!.. رد عليها أبي وهو يمرر كفه على شاربه ويمسّح على لحيته: نعم··· هه·· كما ترين·· والأكثر من ذلك أنني هزمت ''المداني'' شرّ هزيمة··· لقد جعلته يشتهي شربة ماء. يتبع···