الروائية الجزائرية لا تزال تبحث عن تمركزها ضمن المشهد الروائي العربي· عن لغتها من بين بقية ''لغات'' العالم العربي، لأننا نحن الجزائريّين نكاد نكون الوحيدين من يترجمون من العربية إلى العربية· عن شكلها، من حيث التجريب المتفرد بظاهرة ما تعود إليها· عن نوعها: أهي رواية ''جادة''؟ تاريخية؟ بوليسية؟ أو هي خليط من ذا وذاك؟ ولماذا هي تكتب أصلا؟ حتى وإن كنت قد تناولت مثل هذا الانشغال في مناسبات سابقة، فإني تحت ضغط الأسئلة نفسها وغيرها أقدّر أنه لن يكون تكراراً أن أثير من جديد أننا جميعا، وبلغات تعبيرنا المختلفة، ننهل من منبع الإلهام نفسه· فنحن نكتب بأثر وازنٍ من تجربة بلدنا التاريخية: تلك الضاربة جذورها في القِدم· فترة الاحتلال· حرب التحرير· وما بعد الاستقلال· ولكن، وخصوصا، على وقع الرضوض الموجعة التي خلفتها جراح مأساتنا الوطنية العميقة· وبرغم ذلك، فنحن نتمايز، حين يتعلق الأمر بالرواية المكتوبة بالعربية، من حيث المجايلة (جيل المؤسسين· جيلنا· والجيل الذي يتشكل من بعدنا)· ومن حيث أساليب الكتابة· ومقاربات الواقع· وتصوراتنا التي كوناها لأنفسنا عن الرواية وكتابتها· ومن حيث تجربة كل كاتب الذاتية· ومرجعياته الفكرية· ومن حيث المشروع الذي يشتغل عليه· فإن ما يخفى عن كثير من المهتمين بالكتابة الروائية الجزائرية كما الذي لم يُولِه اختصاصيون آخرون بعدُ اهتماما هو ظاهرة الترجمة الدائمة من نسيج اللغات الأخرى المنتشرة في الجزائر (المكتوبة منها والشفهية)· إنها كتابة تؤثث متْنها بتشكيل ينتهي إلى لغة معيارية يخرج بها النص حاملا جذور أكثر من لغة· يبدو ذلك في المجازات· وفي تركيب الجملة حسب أبنية فرنسية غالبا· وأحيانا في تكنيك السرد نفسه، حين يتعلق الأمر مثلا بتدخل الراوي في توجيه حركة الشخصية أو وصف تعبيرها، إذ تكون في موقف القول· وهو تكنيك منقول كما هو في صلابته من غير تدخل من الكاتب الجزائري ليعومه في أساليب السرد العربي، كما يفعل غالبا مع نقل المجازات· فغالبا ما قدرت أننا، في الجزائر، لا نكتب كما نتكلم· ذلك؛ لوجود هذه الهوة الفاصلة بين مسميات أشيائنا في واقع حياتنا اليومية وبين تلك المسميات ذاتها في اللغة العربية القاموسية· فنحن حين نكتب، نضطر إلى نقلها من ذلك الواقع إلى أصلها، الذي غالبا ما يكون مرتبطا بالبيئة التي أنتجته· وعندها نكون نترجم· ومن ثم تبدو وكأنها مسميات غريبة· إنها حالة نكاد نتقاسمها مع الأشقاء في المغرب وتونس· ذلك، عكس الكتّاب في المشرق العربي الذين يكادون يكتبون كما يتكلمون· إذاً، فالمنتظر من هذه الرواية التي نكتبها هو أن تبحث عن لغتها المميزة لها؛ بالحفر في موروثنا الجزائري الذي لا تزال أشياؤه قائمة وحية، لاكتشاف مسميات النباتات والحيوانات والطيور، والأسماء الأعلام، والأمكنة، والملابس، والأطعمة والأشربة، والعوائد والتقاليد والمراسِم· أي ما يؤثث ذاكرتنا· ويحرك وجداننا· ويمنحنا خصوصيتنا الثقافية والفلكلورية أيضا· وأن تتجرأ على إنطاق المسكوت عنه في فترة الاحتلال، وخلال حرب التحرير· وأن لا تتجنب الصدام مع واقعنا الاجتماعي المتحول بسرعة مذهلة تطبعها الإخفاقات المتعاقبة؛ وهي السرعة التي نفقد معها القبض على لحظة الموضوع الروائي الذي يحتاج المسافة الزمنية لانْكتابه· كما قدّرت أن الكتاب الجزائريين، الذين يعيشون في الجزائر ويكتبون عنها من أعماقها وبرائحتها، يجدون أنفسهم، لحظة الكتابة، في حمام من الأصوات اللغوية المتداخلة الآتية من كل اتجاه متزاحمة: نيئة أو مقلمة· صافية وملوثة· من العربية المكتوبة الفصيحة· ومن الشفهية المتنوعة تنوع مناطق استعمالها· ومن الفرنسية· ومن الأمازيغية· في تماسها جغرافياً كما في تمازجها تاريخياً بالثقافات المتوسطية والصحراوية والإفريقية الزنجية· إنها مجموع ''اللغات'' التي أجدني مضطرا إلى ترجمتها من أصلها لإدماجها في فضاء الرواية المشكّل أساسا من اللغة العربية الأدبية؛ بما يحمله ذلك الفضاء من عناصر حضارية تعبّر عنها الخصوصية بما يعطي متن الرواية العربية إضافة نوعية· كما أن المنتظر من الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية هو أن تتوصل بقارئها إلى أن يقول: ها هي كتابة تقول خصوصيتي وتفاصيل هويتي وبصمة تاريخي، وأحلامي وإحباطاتي، وصدمة بلدي التاريخية مع محتليها، وإرث حرب تحرير آبائي وخيباتنا ويقيننا أيضا في أننا سنبني مستقبلنا· ومع ذلك كله، فإن الكتابة الروائية تظل فعلَ الاحتمال والممكن، الذي يهدم كل يقينية· لكن الذي لا بد من قوله بشجاعة هو أن مشهد الرواية العربية المعاصرة في جانب غالب منه يكاد لا يرسم سوى التماثل من حيث لغة الكتابة· ومن حيث موضوعاتها المتناولة بتكرار· ومن انبهاره بمنجزات الآخر· على أن الجانب الآخر الذاهب في المغايرة والتجديد يبقى يصدم بخطر الرقابة وبتحفظ دور النشر عليه· لعل القارئ يبغي أن يحس ارتجاجات كل نص روائي في لغته الحاملة خصوصية كل مجتمع وذوقه وتجاربه·· ذلك هو الرهان المنتظر·