المتتبع للأحداث عن كثب يلاحظ أن الجزائر تعيش عزلة خطيرة على مختلف الأصعدة سيما الصعيدان الثقافي والسياسي· فقد فضّلت الجزائر منذ سنوات، البقاء خارج سور الأحداث تمثل دور غير المعني بحركة الأفكار ولا بمسيرة التاريخ والجغرافيا· وإذا ما صدرت منها حركة في اتجاه معين، فهي حركة ارتدادية غير منبعثة من الذات، إنها حركة لا تجعلها تشارك في تلوين خارطة العالم ولا تزيد فعاليتها عن فعالية قطرة ماء في رمال صحراء قاحلة. فما عوامل هذه العزلة التي تتقاطع مع أهداف الثورة التحريرية؟ وهل هي عوامل اختيارية أو اضطرارية؟ يبدو أن الجزائر ''غير الثورية'' قد وضعت قاعدة فلسفية قوامها الآية الكريمة ''ادفع بالتي هي أحسن''! أو لا تمدن عينيك إلى ما وراء حدودك الجغرافية· وبناء على هذه الفلسفة، فإن الانسحاب من الميدان أصبح أولى من الإقدام الذي كان شعار الثورة التحريرية، ذلك أن السلامة في الانسحاب وأن الخطر في الإقدام. فإذا تجاوزنا الجانب النظري إلى الواقع وتتبعنا الجانب العملي، فإن الجزائر قامت بثورة كبيرة ملأت الدنيا وشغلت الناس، في وقت كانت فيه الدول الكبرى تتناطح في ساحة الحرب الباردة، بينما الشعوب تسعى للحصول على الفتات الذي سمته استقلالا، وكان العالمين العربي والإسلامي قد فقدا الأمل بعد ضياع فلسطين وابتلاع كشمير وفشل الانقلابات العسكرية في تركيا وإيران وأندونيسيا وسوريا وغيرها··· وبدل مواصلة الجزائر لثورتها التحريرية ومسيرتها الجريئة اكتشفت أنها لا تملك قيادة فكرية مؤهلة وأن مفكريها ملتزمون -إلا من شذ منهم- بفكر المستعمر وبإيديولوجيات عالمية لقيطة، وأنه لا فكاك من هذا الوضع حتى بعد أن بلغت البلاد سن الرشد· فقد اكتشف أهلها أن ثورتهم ثورة بدون روح، وأنها ثورة عضلات لا ثورة فكر، لذلك اضطرت إلى الرضى بالعزلة على المدافعة، والانكماش بدل التمدد، وأدرك قادتها أن العزلة هي الطريق الأمثل إلى التآكل والاضمحلال. وللمقارنة خذ مثلا الثورة الإيرانية، وهي آخر ثورات المسلمين، فقد وضعت لنفسها خطة آنية وخطة استراتيجية، فقامت أولا بمهمتها التحريرية، ثم أخذت تتحصن وتتمدد، وهي الآن تصارع لتثبيت هيمنتها على المنطقة، فهزمت العراق وخربته وأخافت دول الخليج ومن يقف في وجه استراتيجيتها· ولخطورة ما تخطط له وتلاحم شعبها عجز الذين تصدوا لتحجيمها وكبح جماحها عن تنفيذ خططهم ضدها· وأثبت قادتها أنهم يحسنون المناورة و''اللعب على الحبلين'': حبل الشرق وحبل الغرب· فلو اقتضاها الحال أن تتحالف مع الشيطان الأكبر لفعلت، ولو اضطرت إلى التحالف مع الغرب، وحتى معه إسرائيل، لما ردتها المبادئ المذهبية ولا الشعارات التي ترفعها من أجل القدسوفلسطين والإسلام· وأية ثورة إذا لم تتحصن ولم تتمط وتستفد من الفلسفة الميكيافيلية مآلها التلاشي. والدرس من هذا أن الجزائر كبحت جماحها بنفسها وضحت بمبادئها وشهدائها، وهي الآن تعاني الانكماش والضمور (كما أراد لها المستعمر السابق)· وما ضعف السلطة بداخل السور الوطني سوى مظهر من مظاهر هذا الكبح· وما الغياب عن مسرح الأحداث الدولية سوى مظهر آخر له· وما شعار ''عدم التدخل في شؤون الغير'' سوى مبرر لذلك الغياب، وهو دليل ضعف ووهن وفقر فكري، وما الدعوة إلى مقاطعة الأشقاء سوى مظهر من مظاهر الضعف والعزلة والهروب. ربما يقول قائل إن قادة الجزائر ''واقعيون'' أكثر من غيرهم، فهم لا يتدخلون فيما لا يعنيهم، تواضعا منهم وحكمة، ذلك أنهم لا يحتملون الفشل، ومن ثمة لا تجدهم إلا إذا كانوا واثقين من النصر· وربما يقول آخرون إن قادة الجزائر يحبون أو يكرهون مناطق معينة وشعوبا معروفة من العالم، وهم يؤمنون أنه كلما ازداد البعد ازداد الحب، وكلما ازداد القرب ازداد البغض، عكس ما تمليه طبيعة الأشياء وتفرضه المصالح العليا· فهم الآن خصوم لجيرانهم: من المغرب إلى مصر، أو من البحر إلى النهر (النيجر والنيل)، بينما يزدادون قربا من الشمال (أوروبا) ويزدادون بعدا من الشرق الأوسط· ومن أبرز مظاهر الاقتراب هذا الانبطاح أمام كل ما هو فرنكو-أوروبي· ومن أوضح مظاهر الابتعاد ذلك اللجوء إلى مقاطعة أهل المشرق العربي وغلق الحدود معهم· ومن نتائج ذلك الابتعاد ''استرجاع'' الطلبة الجزائريين- تحت طائلة التهديد- الذين كانوا يدرسون في مصر بعد حادث كرة القدم المشؤوم. في الحقيقة كان ذلك التباعد أو الابتعاد فاتحة لمقاطعة الثقافة العربية في إنتاجاتها ومحتوياتها· فالكتاب العربي لم يعد متداولا في أسواق الجزائر وجامعاتها إلا على نطاق محدود· فقد أصبح كل كتاب عربي يعتبر من ''صنع مصر'' ولو كان مطبوعا في التيبت عند الدلاي لاما، بل أصبح يعامل كما تعامل السلع الممنوعة. كما أن مثقفي الجزائر لا يكادون يعرفون اليوم شيئا عن الكتب المطبوعة في المغرب أو في تونس أو في ليبيا ولا عن مؤلفيها··· ومن جهتهم أصبح مثقفو هذه الأقطار يجهلون الكتب والثقافة الجزائرية· فمن أين يتغذى طلاب الجزائر وأدباؤها وباحثوها··· ومن أين للآخرين أن يتابعوا تطور إنتاج الجزائر الثقافي؟ لقد قاطعنا الفن العربي، فماذا جنينا؟ جنينا تلفزيونا وإذاعة تجتران الأفلام والأغاني من الأرشيف ''المحلي'' لأن الفنان عندنا لا يواكب مسيرة الإبداع، ولا ينشط -والنشاط غير الإبداع- إلا مع جمهور يشاهد محطات أجنبية· وهكذا لم يستطع ''فنانونا'' أن يطوروا فنهم في بلادهم (مسرح وغناء وموسيقى ونحت وخط···)، فذهبوا يقتاتون من موائد الملاهي الغربية والشرقية حاملين معهم فنهم المغترب والمقتلع من جذوره الأصلية والمستوحى من موضوعات غريبة عن مجتمعهم لا عهد للعين ولا للأذن الوطنية بها. كما شملت مقاطعتنا تبادل زيارات الشباب العربي والإسلامي· إن هذا النوع من الزيارات هو الذي من المفترض أن يؤدي إلى تعارف الشباب وتبادل تجاربهم وأفكارهم، ليزدادوا قربا ووعيا وفهما لآمال بعضهم من أجل وطنهم· فشبابنا بقي اليوم معزولا، لا تشمل برامجه الزيارات الكشفية ولا المدرسية ولا الجامعية ولا النسوية، إلا ما ندر· (مع الاعتراف أن بعض التبادل يتوقف على الطرف الآخر)· لقد أحكمنا غلق الحدود على الشباب بكل أطيافه، مستندين إلى دعاوى معظمها ظنية· فكانت النتيجة أن الجزائر أصبحت تعيش -كما قلنا- في عزلة متناهية بالنسبة لقطاع الشباب، مما جعل منها جزيرة في محيط لا صانعة تاريخ. ومن البديهي أن هذه العزلة الشاملة (شبابية، ثقافية، نسوية، جامعية···) قد أفضت إلى تفضيل ثقافة على ثقافة ولغة على لغة· فالمواطن يمشي في أحياء وشوارع العاصمة وكأنه في بلد أجنبي، فاللغة المكتوبة على المحلات هي لغة المستعمر السابق وحدها، وما حصل من أسلمة وتعريب لأسماء بعض الشوارع والأحياء والمساجد إنما حصل خلال السنوات الأولى للاحتلال أيام الحماس الفياض للوطنية والاستقلال· والخط العربي الجميل يكاد يختفي من بلادنا، وقد شاع أحيانا الخط الكوفي المعقد على المحلات الرسمية والحكومية التي تستعمل اللغتين· أما العواصم والمعارك التاريخية وكبريات الدول التي دافعت عن الحضارة العربية الإسلامية، وكبار الصحابة والفاتحين والقادة والعلماء والشهداء··· فكلها غائبة عن مؤسسات بلادنا. وبدلا من ذلك ها هو المستعمر السابق يصول ويجول في ''مستعمرته القديمة'' فيهين من شاء من الوزراء، ويحكم على قوانيننا قبل صدورها، ويفرق بين مواقف أجيالنا في التعامل معه· وآخر ما صدر عنه هو الثناء الجميل على مسؤولينا الذين رفضوا تجريم الاستعمار بينما هو يمجد الاستعمار وينوه بدور الحركى· ولعل ذلك راجع إلى أن مسؤولينا أنفسهم غير مثقفين ثقافة وطنية ثورية أو هم غير مقتنعين بدور الثقافة في الحركة الوطنية والثورة التحريرية، أو هم يصمون آذانهم عن كل احتجاج شعبي وعن أي صوت للتاريخ· وهذا كله راجع إلى أن مسؤولينا ليس لهم مشروع ثقافي يحفظ الثوابت ويحدد معالم التراث ويرسم استراتيجية البناء العلمي والحضاري للجزائر، والمثل يقول: ''فاقد الشيء لا يعطيه''. هكذا، إذن، تعيش الجزائر في عزلة سياسية وثقافية لا ندري كيف ستخرج منها، أو إلى أين ستقود الشعب الذي نفد صبره حتى لجأ إلى ''الحرفة''· ولعلنا سننتظر جيلا آخر (غير الذي تنبأ به الوزير الفرنسي) ليبعث ثوابت الحركة الوطنية ومبادئ الثورة من جديد ويضع القاطرة على السكة.