أنزع المعطف العتيق والحذاء المتآكل والنظارات ذات الإطار البني العريض، بالكثير من التقدير الذي تفرضه سنوات العِشرة، فالألفة تتولد من الاحتكاك، وهذان رفيقان مخلصان لم يخذلاني تحت الريح والشمس. كما ذكرت قبل أن أودعهما داخل الكيس البلاستيكي الأسود، جلست، ألا يحق لرجل مثلي قضى سنوات طويلة في الخدمة أن يستريح؟ ألا يحق له أن يلتفت قليلا إلى الخلف؟ وينظر من زاوية عينه بالكثير من الريبة، عبر كوة صغيرة حيث تسللت الحياة. إسمي مسعود بن مسعود وينادونني العلوي، لا أدري إن كان ذلك يتقاطع مع علو قامتي واكتمال دورة الحظ. العمر ستون بالتمام والكمال، ما يوافق الخامس والعشرين من كل أكتوبر، ولدت في شهر الأحزان، الرياح والفيضانات، فهل لي يد في كل ما ترتب عن الميلاد الخريفي الخافت، حين تغضب النجوم يولد النحس. هكذا ظلت أمي تهتف إلى غاية وفاتها. تزوجت ابنة عمي وقبل أن أستيقظ وجدت الغرفة الصغيرة قد امتلأت بالصبية والصبيات، ثلاثة في عامين يا إلهي: ماذا حدث؟ وسبعة في ست سنوات. يا رزاق يا كريم الطف بعبدك. الأفواه صغيرة والأسنان كالقوارض، والغرفة تصغر والهواء يشيخ، لكن ربك كبير ولا يضيع عبده. وبما أني رجل نصف أمي نصف متعلم، فقد حققت من حيث لا أدري الشروط المطلوبة بامتياز نلت الجائزة الكبرى كما يقولون في التلفزيون كل صباح أحمل بعض أشلائي وأغادر القرية، أنتظر ماتجود به الطريق: سيارة أجرة، حافلة وربما بعض المعارف والأصدقاء، أفكر كيف أخادع الوقت، وأضيع مع كؤوس الشاي والقهوة والقازوز والدخان. وفي المناسبات السعيدة، حين يبتسم الحظ أحظى بغداء في مطعم من المطاعم، غداء جاهز مشبع بالبهارات والروائح الطيبة. بعض الأيام لها تاريخ، الحظ فيها ينزل من السماء السابعة، كالسهم يخلل شعرك لتستفيق من الدهشة. يأتي هكذا دون مقدمات، رزق من الله، والله لا يخذل عباده، ولم لا؟ لم أسرق ولم أظلم لم... لم... لم. الصحيفة بيضاء يا سيدي. وأومأ لصاحبه. واقتادني الرجل المديد إلى مكتب شبه خاو. طاولة عتيقة وكرسي عجوز، وجدران طليت بزرقة متآكلة، قد يكون طلاؤها تزامن مع طلاء غرفتي، الأماكن تتشابه. قلت في نفسي. قال لي: والقلوب أيضا. وضحكنا، كما يضحك الأصدقاء، شربنا القهوة، أنا من اختار القهوة، السيد خيرني، وقدم لي سيجارة كبيرة، دعاني مخلصا للاحتفاظ بالعلبة، وقبلت بعد تردد. أحببتك منذ النظرة الأولى والله. وأنا كذلك. ودخلنا من جديد في موجة من الضحك. والله ارتحت لك. وأحب مساعدتك، ألا ترغب في راتب شهري؟ واتسعت عيناي، أنا يصير لي عمل وراتب شهري؟. وقبل أن أستعيد هيئتي العادية، أضاف بأدب واضح، فالرجل ابن أصول. يمكنك الحضور غدا صباحا. فجأة وجدت نفسي في البيت، كيف قطعت كل تلك المسافة؟ الله وحده يعلم الغيب والأسرار. وفي الصباح أيقظتني أم العيال باكرا وحضرت الفطور ورفعت نظراتها الصامتة نحوي في حيرة، تلك المخلوقة العجيبة التي أتقنت لغة الصمت بفن واقتدار، لهذا لم تجرؤ على سؤالي، ولأن مزاجي كان رائقا، على الرغم من بعض الخوف والقلق، أخبرتها. قلت لها: يا بنت عمي، ربما دق الفرج بابنا، بعد اليوم ستستريحين، لا عجين ولا كسكس إلا لبيتك وزوجك وداعا لكسكس الجيران، أضفت مازحا ''زيتنا في دقيقنا''. قد تكون ابتسمت في العتمة الصباحية، لست متأكدا من ذلك. ولقيت السيد الجليل. قال لي: هل تعرف القراءة والكتابة؟ نعم ودفع نحوي جريدة تهجأتها هل أنت موافق؟ نعم يا سيدي بشرط أن تبقي هذا الأمر سرا، إن كشفت هويتك، ستنتهي، ليس الوظيفة ولكن حياتك. ارتعشت أحسست بالبلل، نظرات الرجل كانت قاسية وهي تسلط عليّ كما لو كنت تحت كشف الأشعة، طأطأت رأسي ولم أقدر على رفعه إلى اليوم. بنبرة آمرة سلمني ورقة. قال: كل أسبوع، عليك ملء هذه الاستمارة. انظر بم تبدأ: حضرة الباب العالي... إن فلانا قد... لا تهمل أي صغيرة أو كبيرة، دوّن كل شيء كل شيء من صياح الديكة حتى طلوع آخر نجمة مفهوم؟ لا تغفل حتى أولئك الذين لا يدفعون فواتير الكهرباء ولا تنس المقامرين والمصلين أيضا. لا تقل فلان طيب، سجل كل حركة. وفي ظرف شهر كنت قد أتقنت تلك اللغة الباردة واستلذت طعم الخبز. أجلس في المقاهي أدرب حواسي، صارت أذناي بمثابة ردارات، كأني جرادة ضخمة تتحسس بقرونها، أدخن وأسمع ما يدور من رفع صوته بالضحك ومن خفضه حزنا، من حلق لحيته وشاربه ومن طلب الشاي أو القهوة أو القهوة ممزوجة بالحليب هو قال لا تغفل أي صغيرة أو كبيرة. وفي المساجد بالأحياء الشعبية الفقيرة أتلصص على الناس من صلى الفرض وخرج ومن أطال في الركوع والسجود، ومن أكثر من النوافل، وفي دورات المياه أدقق النظر، ماذا يتركون جرائد؟ ما الذي دونوه على الجدران؟. قلت له يا سيدي: ''يكتبون كلاما بذيئا في دورات المياه''. قال لي يا حمار هذه شؤون ليست شؤونا شخصية لا يعاقب عليها القانون. ألم تتعلم بعد معنى الكلام البذيء؟ وحركت رأسي بعد جهد. فجأة بدأ بعض الشبان الجامعيين في الاختفاء، أحمد ولد الحاج، ناجي حسان، وشاع الهمس والوجوم ثمة خيوط تلتف، الله وحده يعلم من يلفها حول رقابنا، صمت ثقيل راح كالشبكة المظلمة يكبر ودون سابق إنذار ارتفعت جدران قاسية من الإسمنت المسلح، سميت جدران الصمت. وفي أيام متتالية وقعت حوادث سير في ظروف متشابهة. ما الذي يحدث؟ أشياء غريبة تحدث.