في الأيام الأولى لغزو الكويت من طرف قوات صدام حسين، ضرب لنا وزير خارجيتنا آنذاك مثالا لتفسير جانب من طبيعة النظام العراقي، قال: ''عندما يطرح صدام حسين السؤال التالي على مجلس وزرائه: هل الفيل يطير، فإن جواب أحكم حكماء المجلس يكون: نعم يطير ولكن على ارتفاع منخفض، ومع ذلك فإن الزعيم قد يجد في جوابه تخاذلا ونقصا في درجة الولاء، وقد يكلف الحكيم حبل المشنقة، لأن الفيل يطير فعلا كما تفعل الطيور''· والشاهد في ذلك ألا أحد يجرؤ على مخالفة الزعيم فيما يطرحه من أفكار ويصدره من قرارات· وعلى هذا القياس يمكن أن يكون الرئيس قد طرح على مجلسه مسألة الكويت، ويكون أحد حكماء المجلس قد أجابه: فلنؤدبه، قبل أن ينطق أحكم الحكماء: ذلك لا يكفي·· الذي أراه أن نغزو الكويت·· وهكذا لا يترك الحكم الشمولي أية فرصة للتفكير الحر ولا مجالا لأي نوع من أنواع المؤسسة المستقلة عن الحاكم الأوحد ذي الرأي الأوحد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا عن قرار الأوحد·· لو عمل صدام حسين على بناء دولة بما تقتضيه من هيئات ومؤسسات حقيقية مستقلة لا يحكمها إلا القانون، لما تجاسر على البلاد أحد، ولما استطاع الأمريكيون أن يبيدوا أكثر من مليون عراقي· ولكانت العراق أقدر على تخطي المحنة حتى في حالة تعرضها لما تعرضت إليه·· ولكن ما حدث أن العراقيين لم يجدوا مؤسسة واحدة تحمي البلاد ولا فكرة واحدة ولا رأيا واحدا·· لم يجدوا سوى الطائفية والجهوية والقبلية والمذهبية والتي لا تفهم إلا لغة السلاح·· هكذا هو معمر القذافي·· كل ما فعله على مدار أربعة وأربعين عاما، هو إفراغ البلاد من كل معاني الدولة، كما اخترعها الاجتماع الإنساني· فلم يجد إلا قبائل يضرب بعضها رقاب بعض، وطوائف يسحق بعضها بعضا، وجيوشا يقاتل بعضها بعضا·· وعندما يقول: إن الحل الوحيد للأزمة التي تمر بها البلاد هو الحرب الأهلية، فإنه يعبر عن صدق الواقع· ليس إلا·· واقع سيكون هو أول من يدفع ثمنه، فلا يخرج من باب العزيزية إلا أشلاء، أو لا يخرج منها إلا مكبلا في أغلال الذل والهوان، كما حصل لرفيقه صدام حسين·· وهل ينتظر أحد أن تحل الأزمة الليبية، بعد ذهاب القذافي وتوقف القصف الأجنبي، من خلال نوع من صراع الطبقات، والمنافسة الحزبية والإيديولوجية بين اليسار واليمين والوسط·· لم يترك معمر القذافي في ليبيا ولا مؤسسة عسكرية، كما فعل مبارك على الأقل، تحسن البيع والشراء مع الإمبريالية الغربية، مع قدرتها على حفظ نوع من التوازن الأمني، وتتيح له النجاة بجلده، وتوفر على البلاد عشرات الآلاف من الضحايا··