نقلت بعض الصحف الغربية، منها جريدة الهيرالد تريبين أنترناسيونال، أن الطائرات الفرنسية استهدفت قافلة من الجنود الموالين للقذافي الفارين من بنغازي، يعني الفارين من المعركة· وتصف الجريدة ذلك بالمجزرة المروعة· وليست الصحيفة الأمريكية وحدها من ينقل مثل هذه الأخبار، بل هناك صحف فرنسية أيضا· وعندما يسأل الخبراء العسكريون، فرنسيون وأمريكيون وبريطانيون، عن إمكانية ارتكاب ''أخطاء'' من هذا النوع يكتفون بالقول: ''نعم هناك صعوبات في تحديد الأهداف بالدقة المطلوبة، والخطر كل الخطر يأتي من هذا الباب''· ويضيفون أن ذلك يمثل إحدى ورقات القذافي في محاولته لاستثارة عواطف الرأي العام العربي والإسلامي· ومن هنا يصفون ما يعرضه التلفزيون الليبي من صور لضحايا القصف، بالإدعاءات، ويقابلونها بالتكذيبات الصادرة عن قيادة الأركان الفرنسية أو عن البنتاغون· القذافي طاغية مجنون والحلفاء إنسانيون· وعندهم أن الصواريخ التي تهاطلت على باب العزيزية لم تستهدف مدنيين، ولا تستهدف القذافي، وهي، في أسوأ الأحوال، أو أحسنها، لا ندري، تحمل رسائل واضحة إلى القذافي بأن الحلفاء قادرون على الضرب أينما يشاءون كيفما يشاءون في الوقت الذي يشاءون· وبعبارة أخرى أن الأمريكيين يبذرون صواريخ الطوماهاوك فقط من أجل التخويف· ويشبه ذلك ما أجاب به الناطق باسم قيادة الأركان الفرنسية عن سؤال يتعلق بتكاليف طلعات مقاتلات الرافال: ''على كل حال إن الطيارين في حاجة إلى حصص تدريبية، وهي أيضا مكلفة، وها هم يقومون بها اليوم في معركة حقيقية''· ومهما يكن فإن مثل هذه الأجوبة وتلك الأخبار، والغموض الذي يحيط بالأهداف العسكرية لقوات التحالف، يضاف إليه مسألة قيادة العمليات، والدور الأمريكي، والتوجس مما تحمله المراحل المقبلة، وبخاصة مع اكتمال الأرمادة الهائلة·· كل ذلك نتج عنه: شرخ في صفوف الحلفاء: من التبرم الألماني الأشبه بالرفض المبدئي للتدخل، إلى التهديد الإيطالي والبلجيكي بوضع السلاح إذا لم تنتقل القيادة إلى الحلف الأطلسي، إلى بداية تململ واضح في الرأي العام الأوروبي والأمريكي، بل إلى معارضة سياسية حقيقية من داخل الكونغرس الأمريكي، وهو ما يفسر تصريحات المسؤولين الأمريكيين بمراجعة درجة مشاركتهم·· إلخ، ويمكن أن يضاف إلى ذلك تصريحات عمرو موسى وهو يعبر عما يشبه خيانة روح نص القرار الأممي، وكأنه يقول: ليس هذا ما اتفقنا عليه·· تصريحات استحقت ردا أمريكيا جافا، يشبه أن يكون: إن الأمين العام للجامعة العربية لا يحسن القراءة، أو أنه صادق على نص لم يقرأه·· وقد بدأ المحللون الأوروبيون يتكلمون عن الأثر الذي سيتركه هذا التدخل على العلاقات الفرنسية الألمانية، ومن ثم على مستقبل الانسجام داخل الاتحاد الأوروبي· وكيف تنظر ألمانيا إلى الموقف الفرنسي من حيث أنه تضحية بالتحالف الألماني الفرنسي، داخل الاتحاد، لصالح التحول الفرنسي من الاستقلالية الديغولية إلى التبعية الأطلسية، بفعل تأثير ما يسمى باللوبي الأطلسي كما يعبر عنه بيرنار هنري ليفي· وفي هذا الإطار تطرح أبعاد التعاون العسكري والنووي بالخصوص بين بريطانيا وفرنسا· ثم كيف ينظر الفرنسيون إلى الموقف الألماني من حيث علاقته بالحسابات الانتخابية للمستشارة أنجيلا ماركل، ومن حيث مواقف ألمانيا من الأزمات المالية في عدد من دول الاتحاد· ومن المفارقات أن تبدو ألمانيا أقل أطلسية من فرنسا بالنظر إلى تاريخ علاقة الدولتين بالولايات المتحدةالأمريكية في أعقاب الحرب العالمية الثانية·· هذا من جهة· ومن جهة أخرى، فإن هذا الشرخ يمثل أولى الانتصارات التكتيكية لمعمر القذافي· وقد ساعده في ذلك أن الغالبية الساحقة لما يمثل المجتمع الدولي ترفض العمليات العسكرية ضد ليبيا· وقد تطورت مواقف بعض الدول، من التردد، والرضا المغلوب على أمره، إلى الرفض ثم أخيرا إلى التعبير الصريح عن الغضب، كما يدل على ذلك الموقف الروسي· حتى أن ما قاله رئيس الوزراء فلاديمير بوتين لا يختلف عما يقوله القذافي وهو يتكلم عن هجمة صليبية غربية· ولا يجب أن ننسى أن لمواقف مجموعة من الدول علاقة واضحة بمستقبل هيئة الأممالمتحدة ومجلس الأمن· ومن المنطقي جدا أن تضع ألمانيا والهند والبرازيل نصب عينها ما تطمح إليه من مقعد دائم في مجلس الأمن وهي تتصدى لمثل هذه القضايا· وبالفعل فإن الكثير من المحللين يتساءلون عن مصداقية التدخل الأجنبي ضد ليبيا باسم المجتمع الدولي في الوقت الذي نرى فيه معارضة قوية من قبل عدد كبير من الدول الأعضاء في مجلس الأممالمتحدة، ومنها دول لا يستهان بقوتها السياسية والاقتصادية: روسيا، ألمانيا، الهند، البرازيل، تركيا·· وتفوح من كل ذلك رائحة قوية للتسابق على مناطق النفوذ القريبة من حقول النفط· يدل على ذلك ازدواجية المنطق الأمريكو فرنسي بريطاني بين تدخل عسكري إنساني في ليبيا وبين سكوت منافق بل ومساندة إجرامية للقمع الممارس على الشعوب الخليجية·· للأسباب نفسها· إلى هنا لم يعد التساؤل عن مصداقية الحملة على ليبيا، ولا الشك في غالبية الأخبار التي ملأت بها رؤوسنا القنوات الإخبارية، الجزيرة والعربية وباقي القنوات الفرنسية والأمريكية والبريطانية، من المحرمات·· ما الذي يمنع أن تكون مجرد مسرحيات مفبركة على قياس أسلحة الدمار الشامل العراقية وعلى قياس مذابح ميلوزوفيتش وتيمشوارة وغيرها؟ وأين الديمقراطية في العراق وأفغانستان؟ وهل يكون رئيس العدل الليبي السابق أكثر ديمقراطية من معمر القذافي، وهل كان المالكي وكارازي أكثر ديمقراطية من صدام حسين والملا عمر؟ الواقع أن العراق دمر بصفة كاملة مع قدوم الأمريكيين وانتقلت الساحة العراقية من رعب الديكتاتورية إلى فظاعة الطائفية والجهوية وحرب العصابات والميليشيات ومافيا المال من كل نوع· وأما في أفغانستان فلا تزال الحرب الأهلية التي اندلعت سنة 1979 تحصد إلى اليوم عشرات الأبرياء· ولا أحد يستطيع اليوم أن يتنبأ باليوم الذي يعود فيه الاستقرار إلى بلاد الرافدين وأفغانستان· ولا تسل عن الحرب المنسية في الصومال· لعلنا نتذكر ما قالته كاتبة الدولة الأمريكية، في بداية أحداث الحرب في ليبيا: ''ليبيا قد تتحول إلى ديمقراطية حقيقية، وقد تتحول إلى حرب أهلية طويلة الأمد''، تماما كما وعد القذافي·