تعددت حالات الانتحار في قسنطينة رميا للنفس من أعلى الجسور المتعددة التي صنعت تاريخ المدينة على مرّ التاريخ· وتجاوز الأمر الحالات الفردية إلى محاولات الانتحار الجماعي في أشكال احتجاجية مثلما حدث قبل أيام، إنه الاحتجاج على الطريقة القسنطينية، حيث تحوّلت الجسور من حالة جمالية إلى حالة اجتماعية تهدد بالمأساة· أول ما يقع عليه نظر الزائر لقسنطينة التي أنشئت قبل 2500 عام، هي تلك الجسور المعلقة التي يقصدها السياح من مختلف أرجاء الأرض لمنظرها الجمالي الذي يصعب وصفه وصفا دقيقا، ومنصف هذه الجسور التاريخية المتناثرة في أرجاء المدينة تعد مبعثا للافتخار لأهلها بما تحمله من عبق التاريخ. غير أنه وبجانب الذكريات الجميلة التي ارتبطت بها والأماكن المحيطة بها، فإن الصورة لا تخلو من مشاهد مأساوية علقت هي الأخرى بهذه الجسور العريقة، لأنها كانت السبب في فقدان العديد من العائلات لأبنائها وبناتها وحتى أربابها الذين ضاقت بهم السبل ولم يجدوا إلا في الجسور والتحليق من عليها إلى الأسفل سبيلا سهلا وسريعا لوضع حد لحياتهم. ومن بين حالات الانتحار الكثيرة التي تشهدها جسور قسنطينة يوميا نجد حالة راح ضحيتها ابن الحاج محمود الطباخ بأحد المطاعم الشعبية، وفيما يروي ''كنت في العمل عندما أخبروني بالحادثة المؤلمة التي لازلت أتجرع مرارتها إلى حد الساعة، وجعلتني أعيش في وضع نفسي متدهور.. إنه خبر انتحار ابني من على جسر سيد مسيد، وقد كان بلا عمل، فتملكه الإحباط قبل أن يقرر وضع حد لحياته، أظن أنه لولا الفقر لما تجرأ على هذا الفعل ولما عاشت عائلتي مثل هذه الظروف الصعبة''. جسور قسنطينة من مفخرة إلى مقبرة تشهد جسور قسنطينة حالات متكررة للانتحار، حيث يقدم أشخاص من الجنسين، بعد أن ضاقت بهم سبل الدنيا، وهم من فئات عمرية مختلفة، على رمي أنفسهم من فوقها إلى درجة أن بعضهم يقصدونها من عدة مدن مجاورة لوضع حد لحياتهم التي أفسدها الفقر المدقع والبطالة، حيث تشير المعطيات المستقاة من مصالح الحماية بقسنطينة، إلى أن الظاهرة، وإن لم تسجل ارتفاعا خلال السنة الماضية وحافظت على المعدل نفسه الذي سجل في العام الذي سبقها، إلا أنها تبقى خطيرة وتعد نقطة سوداء بالولاية والمنطقة الشرقية بصفة عامة· وفي السياق ذاته، أحصت مع نهاية شهر أكتوبر من عام 2011 ما يقارب ال 50 محاولة انتحار، 43 منها أقدم عليها رجال، بينما نجح 11 شخصا في تجسيدها ووضع حد لحياتهم بعد رحلة لم تدم طويلا في السماء قبل أن يستقروا بأحد ضفاف وادي الرمال لتكون بذلك آخر ما تقع عليه أعينهم قبل مغادرتهم الدنيا، بينما تم إنقاذ البقية بعد تدخل مصالح الحماية المدنية والمواطنين الذين تعودوا على مثل هذه الحالات، واحدة منها تعود لرب أسرة يسكن بالمدينة القديمة، الأخير وبعد أزيد من 3 ساعات من التشاور معه نجح أحد المواطنين بالتعاون مع مصالح الحماية المدنية في الإمساك به وسحبه من على حافة جسر ملاح سليمان، وبعد الحديث معه عقب الحادثة التي وقفت عليها ''الجزائر نيوز''، قال ''ظروف الحياة الصعبة التي أعيشها رفقة عائلتي التي تتكون من زوجتي وأطفالي الصغار هي التي كانت السبب في إقدامي على محاولة الانتحار، لأنه لم يعد لي الطاقة على تحمّل المزيد، في حياتي لم أكن أعلم أن الجسر الذي كنت أزوره رفقة أصدقائي للعب بالقرب منه وأنا صغير، سيكون سلاحي لوضع حد لحياتي، لكن الحمد لله ذلك لم يحصل، وهي تجربة قاسية أتمنى أن لا يمر بها أي شخص آخر''· هذا، وتعد حادثة انتحار رجل يسكن منطقة القماص عشية عيد الأضحى الماضي من أكثر الحالات تأثيرا، لأن الضحية الذي يبلغ من العمر 45 سنة أقدم على ذلك بعد أن عجز عن شراء كبش العيد لأطفاله، والمثير في القضية أن خبر انتحار الأب وصل إلى آذان أطفاله بينما كانوا يستلمون الأضحية التي تحصلوا عليها من محسنين، وبدل أن يفرحوا بها كبقية أقرانهم تحوّل عيدهم إلى مأساة شأنهم في ذلك شأن باقي أفراد العائلة. الإنتحار للتستر على جرائم قتل مع سبق الإصرار والترصد وتحوّلت جسور قسنطينة إلى وسيلة يستخدمها بعض المجرمين للتستر على جرائمهم، آخرها تلك التي وقعت نهاية الأسبوع الماضي وراح ضحيتها شاب في العقد الثالث من عمره، لا يزال البحث جارٍ للتعرّف على هويته، وذلك بعد أن عثر عليه جثة هامدة تحت جسر سيدي مسيد، وحينها اتضح للعيان أن الأمر علاقة بعملية انتحار، لكن تشريح الطب الشرعي أظهر أن الضحية تعرّض لعدة ضربات تسببت له في جروح كانت السبب في وفاته، قبل رميه من على الجسر بهدف التستر على الجريمة وتكييفها إلى عملية انتحار. مثل هذه الحالات كثيرة من بينها تلك التي راحت ضحيتها شابة في العقد الثاني من عمرها، حيث أقدم خطيبها على رميها من على جسر سيدي راشد بعد أن حملت منه بطريقة غير شرعية بهدف التخلص منها، وحاول تكييف القضية إلى عملية انتحار، حيث قال أثناء التحقيق معه أنه، وبينما كان يسير برفقتها على رصيف الجسر، قامت برمي نفسها من عليه بعد دخولهما في مشادات كلامية، التصريحات التي تراجع عنها في وقت لاحق بعد معاودة التحقيق معه معترفا أنه المسؤول عن وفاتها، وهو الذي ألقى بها من على الجسر بعد أن رفضت إنزال الجنين وطلبت منه الزواج في مدة قصيرة. وفي حالة مشابهة، لا يزال التحقيق جارٍ لمعرفة الأسباب التي كانت وراء إقدام شابة تبلغ من العمر 25 سنة على الانتحار، واتضح بعد تشريح جثتها أنها كانت حامل وكذلك الحال بالنسبة لقضية شاب ينحدر من حي باب القنطرة عثر عليه ميتا تحت جسر سيدي مسيد، وحينها رجحت المعطيات المتوفرة أن الأمر له علاقة بتصفية حسابات، وأن الحادثة تمت مع سبق الإصرار والترصد. أما عن عدد الحالات المسجلة في الصدد ذاته، فتشير المعطيات المتوفرة إلى أنه وبالرغم من قلتها، إلا أنها باتت تعرف انتشارا محسوسا في الآونة الأخيرة، حيث تم تسجيل ما بين 5 و7 حالات لعمليات انتحار يعتقد أن لها صلة بعمليات إجرامية ارتكبت من قبل أشخاص عمدوا إلى رمي جثث الضحايا بعد قتلهم للتستر على الجريمة. تهديدات جماعية بالانتحار من على الجسور للضغط على السلطات من جهة أخرى، فقد تحوّلت جسور قسنطينة إلى قبلة لكل من يريد الاحتجاج والمطالبة بتحسين ظروف حياته اليومية، آخرها تلك التي أقدم عليها العشرات من سكان حي رومانيا ممن تم استثناؤهم من قوائم المستفيدين من السكن، حيث اجتمعوا على حافتي جسر سيدي مسيد وهددوا بالانتحار جماعيا في حال مواصلة السلطات المحلية تجاهل مطلبهم، ولم تقم بترحيلهم في القريب العاجل قبل أن يعدلوا على ذلك بعد حديثهم مع ممثل عن والي الولاية· مثل هذه الحالات كانت، وإلى وقت قريب، تقتصر على بعض الأشخاص فقط ممن يهددون بالانتحار من أجل المطالبة بأشياء لها علاقة بالعمل وتحسين ظروف الحياة قبل أن تتطور مع مرور الوقت لتتحوّل إلى تهديدات جماعية بالانتحار في ظاهرة وجد فيها الكثيرون ضالتهم لإيصال رسالتهم إلى أعلى السلطات في البلاد. مؤشرات -- 50 محاولة انتحار من على الجسور بقسنطينة سنة 2011 -- إنقاذ 39 شخصا من الموت وهم بصدد رمي أنفسهم من على الجسور -- 90 % من حالات الانتحار سجلت وسط فئة الرجال -- تسجيل 7 حالات انتحار يشتبه في أن لها علاقة بعمليات إجرامية -- جسر سيدي مسيد يعد قِبلة للمنتحرين ويصل ارتفاعه إلى 200 متر عن الأرض